بينما كنتُ أقرأ في كتاب في ظلال القرآن لسيد قطب، مررت بالعديد من المسائل التي قد ضل فيها المؤلف لقصور علمه والتباس فهمه، وأصبحنا نرى اليوم نتائج هذا الالتباس تعصف بالعالم العربي والإسلامي، وهي الشبه والإشكالات التي تطورت مع مرور الوقت إلى لوثة فكرية تدعو للحزبية، وتحرص للتطرف والإقصاء وأحادية الرأي، كما هو منعكس الآن في أيديولوجيا جماعة الإخوان المسلمين.
ففي ظلال جماعة الإخوان المسلمين ستجد المفهوم الذي يشرع القتل ويشعل الحروب الأهلية في الأوساط والمجتمعات الإسلامية قبل غيرها، ويسعى إلى تقسيمها وإضعاف قواها.
لن نتحدث في هذا المقال عن جميع الإشكالات التي في الكتاب؛ لأن هذا يحتاج إلى كتب أو سلسلة كاملة في إبطال هذه الدعوة وكشف ملابساتها، بل سنأخذ هنا جزءًا من الجانب الذي أشعل الحزبية وأخرج القاعدة وداعش والنصرة وبوكو حرام وغيرها من التنظيمات التي من ظلال الإخوان، فقد أطلق المؤلف في مفهومه ظلاله الذي يدعو إليه بتكفير عموم المسلمين والشذوذ عنهم والبراءة منهم، ومن دون أي مراعاة للمفهوم الإنساني ولا للنص القرآني المحكم في الاجتماع وعدم التفرقة وعدم تكفير المسلمين كقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (الأنعام: 159)، وقوله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(آل عمران:105)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “يد الله مع الجماعة” وقال عليه الصلاة والسلام في التحذير من التكفير: “تكفير المسلم كقتله” وأيضًا إنكار النبي الشديد على أسامة بن زيد عندما قال: “أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ، وأين تذهب بلا إله إلا الله يوم القيامة”؛ حيث قال المؤلف في ظلاله: (لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا الله فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظل فريق منهم يردد على المآذن لا إله إلا الله دون أن يدرك مدلولها.. إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية وارتدت عن لا إله إلا الله، فأعطت لهؤلاء خصائص الألوهية، ولم تعد توحد الله وتخلص له الولاء… البشرية بجملتها بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات لا إله إلا الله بلا مدلول ولا واقع… وهؤلاء أثقل إثمًا وأشد عذابًا يوم القيامة لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد من بعد ما تبين لهم الهدى، ومن بعد أن كانوا في دين الله).
وفي ظلال الإخوان أيضًا ستجد الخلط في مفهوم الحاكمية والتكفير على ذلك بالعموم من دون إلمام بالمسألة، فقد أطلق المؤلف مفهومه في ظلاله بقوله: (يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة…لا لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضًا ولا منها تدخل في هذا الإطار؛ لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها، فهي وإن لم تعتقد بألوهية أحد غير الله تعطي أخص خصائص الألوهية لغير الله فتدين بحاكمية غير الله، فتتلقى من هذه الحاكمية نظامها وشرائعها وقيمها وموازينها وعاداتها وتقاليدها… موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية كلها يتحدد في عبارة واحدة: أن يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها).
وبهذا المفهوم الخاطئ بنى حكم التكفير بالعموم على الأمة الإسلامية من دون تأصيل أو تحرير للمسألة، واستند على جزء مجتزئ من آية وهو قول الله تعالى: ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(المائدة: 44)، ومن دون مراعاة لما يقتضيه هذا الاجتزاء بالتركيب اللغوي في فهم النص القرآني، والذي يتبين في وجهين:
الوجه الأول أن جزء الآية اشتمل على عمومين، العموم الأول: اسم الصلة (مَن). والعموم الثاني: اسم الصلة (مَا).
فالعموم الأول: (مَن) يشمل كل من لم يحكم بما أنزل الله، ومن دون استثناء لأحد أو تخصيص أيًا كان، ويشمل أيضًا بالاضطرار كل من حكم بحكم مخالف.
والعموم الثاني: (مَا) يشمل كل ما أنزل الله من دون استثناء لشيء كالقرآن والتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وغيرها، وإطلاق العموم في هذا الجزء ليس له مخصصًا، فسيطال حكمه جميع الناس بما فيهم الأنبياء وحاشاهم ذلك، لأنهم لم يحكموا بكل ما أنزل الله، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يحكم بالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وغيرها، وسيطال الحكم المؤلف نفسه الذي لم يخرج من هذا العموم، وهذا يبين بطلان هذا المفهوم المنطلق من اجتزاء آية عن سياقها.
والوجه الثاني فقد ابتدأت الآية بحرف (و) وهو حرف عطف، مما يدل ارتباطها بما سبقها من آيات، وبعد النظر لكامل الآية وهي قول الله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(المائدة: 44) تبين أنها نزلت في قوم من اليهود حرّفوا التوراة، وهي إخبار عنهم، وبذلك قال جمع من الصحابة ومنهم ابن عباس -رضي الله عنه-.
ولا أظن أيضًا أن المؤلف وقف على الحديث الصحيح حديث أبي شريح أو وقف عليه ولم يتدبره وإلّا لم يخرج بهذه النظرة السوداوية المتطرفة الشاذة، والذي قال فيه الصحابي أبو شريح: أن النبي صلى الله عليه وسلم سَمِعَ قومه يُكنّونه أبا الحكم فدعاه وقال: (أن الله هو الحَكم وإليه الحُكم، فَلِمَ تكنّى أبا الحكم) فقال أبو شريح: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أحسن هذا).
فقد حسّن النبي -صلى الله عليه وسلم- حكم أبي شريح قبل دخوله في الإسلام، وكان أبو شريح يتحرّى العدل في حكمه باعتماده على فطرته السوية وخبرته في تمييز الحكم، من دون أي كتابٍ منزل أو سنة متبعة، وهذا التفصيل لا يلغي ثبوت أحكام من القرآن الكريم.
وفي ظلال الإخوان أيضًا ستجد المفهوم الذي يشرع لهدم المساجد وتفجيرها وقتل المصلين فيها ووصفها بمعابد الجاهلية؛ فقد قال المؤلف في ظلاله (اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي، وتزاول فيها عبادتها لربها عن نهج صحيح وتزاول بالعبادة ذاتها نوعًا من التنظيم في جو العبادة الطهور). اه.
مخالفًا بذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: أفضل الأماكن بيوت الله، ومخالفًا الفهم الإنساني السوي تجاه من يعبد ربه، ومخالفًا لمقاصد الشريعة وقد قال الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ )(آل عمران: 103)، وقال تعالى: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ )(الأنعام: 52).
وفي ظلال الإخوان أيضًا ستجد المفهوم العنصري والإقصائي الذي يجسّد المفهوم الإسلامي الشامل على جماعة من الناس تسعى للتسلط على العموم، والسعي خلف أيديولوجيا التطرف والقتل لكل من لم يتبع هذه الجماعة أو لم ينضم إليها.