المقالات

أقلامٌ بلا ثمن

قال صاحبي: هل هناك أقلام بلا ثمن؟ سؤال غريب قال صاحبي، ثم أتبع كلامه بسؤال آخر أكثر غرابة، هل تباع الأقلام وتشترى؟!
كنت أظن- وبعض الظن إثم- أن المقصود بكلام صاحبي شكل القلم، وماركته للوهلة الأولى، حتى عادت بي الذاكرة سنوات للوراء عندما أحضر والدي عاملًا من جنسية عربية – رحمها الله- للمنزل، وأمرني أن أعيده بعد نهاية عمله إلى منزله، حينها كنت في المستوى الأول من دراستي في الإعلام، فدار بيني وبينه نقاش طويل، ثم التفت إلي وسألني فجأة “فين بتكرأ يا ولد؟” فأجبته على الفور، أدرس في الإعلام، ثم طلب مني أن أناوله قلمًا كان في جيبي، فقلبه قليلًا في يده ثم سألني “كديش حقه؟” فخشيت أن أجيبه، لأن ثمنه كان أكثر من أجرة عمله لدينا، فقلت له هذا القلم سعره زهيد، فالتفت إلي وقال بنبرة حادة لم أتبين معناها إلا عندما تقدمت في الدراسة وأوشكت على التخرج،” بتحكيش هيك كلمك غالي”، وأسقط في يدي وقتئذ ظنًا مني أنه علم بكذبي عليه.
​أتذكر هذه القصة في كل مرة أقرأ فيها مقالًا، أو أستمع فيها إلى حوار إذاعي، أو أشاهد برنامجًا تلفزيونيًا، تعوزها الموضوعية والنزاهة، والمهنية بشكل عام، عندها أردد أين أنت يا أبا إحسان؟ لترى وتسمع وتقرأ ما تفرزه هذه الأقلام الرخيصة، من كذب وافتراء وتضليل!!، من أجل حفنة دراهم معدودة، أو من أجل ايديولوجيا مسمومة، أحالت الضمير إلى غائب لا ترتجى عودته، وصنعت من المهنة الشريفة وسيلة كسب غير مشروع، تحاسب عليه القوانين، وتتبرأ من صاحبها الأنظمة السياسية التي سخرت هذه الأقلام لخدمتها والدفاع عنها عندما يكشف أمرها.
هذه الأقلام المسمومة هي من صنعت محتوى برامج تليفزيونية، وكتبت التعليق، ووظفت كلمات بعينها ذات مدلولات مهمة وخاصة، وتساؤلات مصنوعة من حقد وفلسفة امتزاج فيها السياسة بالإعلام. الكلمات المختارة تم انتقاؤها بعناية خاصة لتشير إلى مدلولات بعينها، والتساؤلات الماكرة التي سعت القناة لإثارتها، تركت الإجابة عنها مفتوحة يستنتجها المشاهد بنفسه، بعد أن هيأته بأساليبها الخاصة، وغير المحسوسة إلى ما تريده، بعدما رفدت برنامجها بصور ثابتة ومتحركة، لتكون مكملة للنص الإعلامي، في عملية إقناع الجمهور والتأثير فيه.
وإذا كان علماء اللغة الإعلامية يؤكدون على أن القدرة على الاقتناع تكمن في القدرة على صناعة الرسالة بمفاهيمها المتعددة بطريقة تقنع الناس بها، ووسائل الإعلام الموجهة تعمل ببراعة فائقة، حتى امتلكت ناصية صناعة التضليل والكذب، في تحديد المفاهيم التي تريد إيصالها في مضامينها، فالشهود أسماء مجهولة، أو ممثلون بارعون، أو موظفون في الوسيلة لا تظهر صورهم بطريقة واضحة، توظفهم القناة الإعلامية كشهود على ما تقدمه، حتى يتقبلها المشاهد، ويؤمن بها.
وسائل الإعلام لا تحدد لنا ما نشاهده ونقرؤه فقط، بل تحدد لنا كذلك كيف نقرأ الأحداث وكيف نفهمها وفي أي إطار نضعها لنفسرها ونحللها وفق رؤية صناع المحتوى الإعلامي، وتحقيقًا لأهدافه، تطبيقًا لقاعدة “دعونا نتوجه إلى رؤوسهم”، وهذا يعني تحولًا خطيرًا في استراتيجيات الدول المالكة لأسرار وفنون الإعلام، في الانتقال من القوة العسكرية-الصلبة- إلى القوة الناعمة، فالأولى تأثيراتها محدودة على مساحة جغرافية لا تتجاوزها، وأما الأخيرة، ومع انتشار وسائل التواصل، فأصبح الكون كله مساحة لها. وتحولت القوة الناعمة إلى صلبة دون وعي الجماهير، فاستبدل الجذب بالفرض.
وبعد أن دارت الشائعة حول العالم عدة مرات؛ كانت الحقيقة تبحث عن ردائها، هذه هي الحرب الجديدة التي تستهدف تدمير عقول الأفراد بدلًا من مدنهم، استبدلت القناعات، وحولت بوصلة الرأي العام إلى الوجهة التي يريدها رجال الإعلام، بعد أن قاموا بتزييف الوقائع، واستخدام جميع المؤثرات التي تقنع المتلقي بقبولها، من أجل شيطنة هذا أو ذاك، وممارسة الاغتيال المعنوي ضد شخصيات لا تروقها، أو تحمل مشاريع تعارض مشروعاتهم.

قلت لصاحبي:
“الكذابون خاسرون دائمًا، ولا سيّما أن أحدًا لا يصدقهم حتى ولو صدقوا”.
أرسطو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى