عندما كنت في التعليم كان معنا فرّاش كبير في السن، لكنه كان ماهراً إلى درجة الخيال في صنع أقداح الشاي، كان المعلمون يغشون مطبخه بحثا عن فنجان من الشاي “المنعنش”، ولذلك تراهم منذ الصباح الباكر – وقبل بدء الاصطفاف الصباحي – وقد تراصت أمامهم فناجين الشاي بلونها الأحمر القاني في حجرة المعلمين ، فيما هم منكبون على ارتشافها بنهم “على الريق” …. وكذلك في الفسحة الكبيرة وسط اليوم الدراسي.
.
ومن اللطائف، أنني ذات مرة رأيت أحد المعلمين – بعد أن وقّع الانصراف في دفتر الدوام – وبعد خروج جميع الطلاب من المدرسة .. رأيته يسأل فراشنا الفخم إن كان ما يزال لديه فنجان شاي .. وإذ بـ “عم إبراهيم” يرد وهو يطلق ضحكة لطيفة: (لا والله يا ولدي – خلاص .. أنا غسلت البراد)
.
عم إبراهيم ذاك، كان مبدعا ولاشك، وكنت فخورًا به، وأحمل له الكثير من التقدير .. وأنا في الواقع كبقية الناس مفتون بالمبدعين، أرفع لهم القبعة، ولا يهمني موقعهم الوظيفي إن كان أحدهم فرّاشاَ أو سعادة المدير العام، ولذلك تراني أظل أرمقهم من بعيد، وأتمنى لو طبعت قبلة على جباهم .. فالمبدع يستحق – لأنه عملة نادرة ،أو كما يقال “خلاصة الخلاصة” .
.
والإبداع – كما أفهمه – هو أن تقدم عملًا مميزاً لافتاً في صنعتك، أو موهبتك، أو عملك، بحيث تكون بارزاً بين أقرانك .. والحقيقة أن منصات التميز والتفرد واسعة، تقبل كل المبدعين بدءاً من جامع القمامة المميز في الشارع، ومن الفراش وحتى الوزير .. وبالطبع معهم الشعراء والكتاب والروائيون والطباخون ونجوم الرياضة والفن … الخ حالات الفعل الإنساني والحياتي.
.
ذات زمن كنا مجموعة من الزملاء نلتقي أسبوعياً في استراحة، كان عشاؤنا مجرد كبسة بالدجاج، يطبخها لنا حارس الاستراحة البنجلاديشي، لكنها من فرط جمال طعمها، ظلت من النوع الذي “تأكل أصابعك ورائها” .. حتى أنني من الشغف دخلت معه المطبخ غير مرة، مصراً على معرفة كلمة السر، وطامحًا في التقاط مهارته تلك في الطبخ .. لكنني فشلت، وبعد عدة دروس لم أصل إلا إلى ربع مهارته ربما.
.
حتى جاء من يقول لي أن مسألة الطبخ هذه هي في الأصل (نفس) فحتى النساء في البيوت جميعهن يطبخن، لكن ثمة فرق بين طبيخ هذه وتلك .. اتكاءً لما تعارف عليه الناس بأن فلانه عندها “نفس” في الطبخ أكثر من غيرها، ولذلك فطبيخها مميز لا تصل له مجموعة كبيرة من النساء حولها .. وتلك في الحقيقة مهارة وتميز ثم ابداع في نهاية المطاف .. وكنت اسمع وأنا صغير في ديرتنا الجنوبية من يقول: إن خبزة فلانة أو قهوتها (ماشي كماها) أي ليس لها مثيل.
.
لو تلفت أنت وأنا من حولنا إلى وظيفة المدير العام – مثلاً – .. فكم مدير عام مميز ؟ .. إنهم قلائل .. بينما الكثير الأخرون تقليديون كلاسيكيون ، يؤدون العمل بطريقة رتيبة أو يأسلوب “الدف” أو “كيفما أتفق” ، هؤلاء ينساهم الناس لمجرد أن يغادروا كراسيهم، بل قد يكونون منسيين حتى وهم يتربعون على الكرسي .. بينما ذاك المدير العام المميز هو في ذاكرة الناس خلال المنصب وبعد أن يغادره .. وإذا رآه من يعرفه من بعيد أشار اليه بالسبابة قائلًا بينه وبين نفسه: (الله يذكرك بالخير).
.
الإبداع في الأصل موهبة، ثم تصقل بالعمل والإخلاص والمثابرة .. وكم من إنسان يُولد ولديه مواهب كثيرة أو موهبة معينة بارزة، ولكنه لم يستثمرها ولم يعمل على صقلها واستنطاقها .. إما لكسله وخوره، أو تراخيه، أو استسلامه لأي نوع من الاحباطات .. فـ تراه يظل طول عمره تقليدياً روتينياً، مع أنه يحمل فوق كتفيه موهبة عظيمة، ثم لا تلبث تلك الموهبة أن تضمر، ثم تموت بين جنبيه.
.
الإبداع هو الابن الشرعي للموهبة .. ويظل الإخلاص والجدية والعمل المتفاني هي الخطوات الإجرائية المهمة لـ “تسييل” الموهبة من مكوّنها الجامد، إلى حشد من المنجزات الظاهرة الباهرة على الأرض.
.
وفي حقيقة الأمر فكثير من الناس موهوبون بالفطرة … لكن الفرق أن ثمة من يمسك بـ زمام موهبته إلى حيث مرافئ النجاح …
وثمة من يدع موهبته هي التي تقوده إلى التيه والعدم.