تقتضي مُواجهة قضيَّة تمويل التَّعليم الجامعيِّ والحاجة إلى رفع درجة كفاءته وتحقيق العدالة بين الطُّلَّاب اتِّخاذ مجموعةٍ من الإجراءات التي تُؤدِّي إلى زيادة وتنويع الموارد الماليَّة من خلال التَّوصُّل إلى مصادرَ تمويليَّةٍ مُستدامةٍ فيما يُعرَف بالتمويل المُستدام».
وتُعرَّف الاستدامةُ الماليَّة بأنَّها: قُـدرة الجامعة على العمل والإنتاج والاستمرار -والبقـاء مُستقبلًا- من دون استنفاذ مواردها الرَّئيسية، وذلك من خلال تغطية جميع التَّكاليف، إضافةً إلى توفير عائدٍ مادِّيٍّ مُستدامٍ، وقد شَهِد بيت مال المسلمين تنوعاً في الموارد المالية، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما بعث معاذ بن جبل الى اليمن لقبض الصدقات من عمالها، ومع أبي عبيدة بن الجراح حينما أرسله إلى البحرين ليأتيه بجزيتها.
وفي ظلِّ تزايُد الطَّلب المجتمعيِّ المستقبليِّ على التَّعليم وارتفاع ميزانيَّات التَّعليم التي تُنفقها الحكومةُ الرَّشيدةُ في السُّعوديَّة، فإنَّ فكرة الاستمرار في الاعتماد على الدَّعم الحكوميِّ بوصفه مصدرًا وحيدًا لتمويل قطاع التَّعليم، تبدو فكرةً صعبةً. ولقد هدفت رُؤية 2030 إلى الاستغناء عن النَّفط بوصفه مصدرًا أساسيًّا للدَّخل وإيجاد بدائل لعمليَّة تمويل التَّعليم لتحسين الكفاءة التَّعليميَّة؛ ممَّا يُحتِّم على المسؤولين عن التَّعليم أن يبحثوا عن مصادر غير تقليديَّةٍ للتَّمويل. وهذا ما يتفق مع مقاصد شريعتنا الغراء وحثها على طلب العلم وتعليمه، وجعل ذلك معيارًا للتفاضل بين المسلمين. لما رواه البخاري من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ».
وعلى هذا النهج سرى مكتب تحقيق الرُّؤية في برنامج التَّحوُّل الوطنيِّ 2030 حدَّد مجموعةً مِن الأهداف الاستراتيجيَّة، منها: تنويع مصادر تمويلٍ مُبتكرةٍ، على اعتبار أنَّ ما تملكه الدَّولة مِن مصادرَ اقتصاديَّةٍ وماليَّة يلعب دورًا كبيرًا في توجيه الحياة التَّعليميَّة، وهو ما يُعد من أبهى صور التَّعاون على البرِّ التي أمر بها اللهُ في كتابه الكريم في قول الله تعالى: {…وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ …} [المائدة:2]. ويذخر لنا التاريخ الإسلامي بالعديد من النماذج والأمثلة التي قام بها الأسلاف من وقف الأوقاف لتمويل التعليم والإنفاق على طلبة العلم؛ وهو أمر مشهور معروف في التاريخ الإسلامي.
ومع النظرة الشاملة التي وضعتها رؤية 2030 للمؤسسات التعليمية ودورها المجتمعي يأتي دور المؤسسات الجامعية في تعزيز الموارد المالية التي يتم بها دعم التعليم وتحقيق الاستدامة المجتمعيَّة، ويتمُّ ذلك من خلال تحقيق التَّعليم الممَوَّل ذاتيًّا، وتطوير التَّعليم المستمرِّ، وقُدرة الجامعة على زيادة الاستثمارات والبُحوث التَّعاقديَّة، وذلك لدعم العملية التعليمية التي على أساسها تنهض الأمم وتتقدم المجتمعات، ولله درُّ الإمام علي – رضي الله عنه – إذ يقول:
ما الفضلُ إِلا لأهلِ العلمِ إِنهمُ
على الهُدى لمن استهدى أدلاءُ
فقمْ بعلمٍ ولا تطلبْ به بدلا
فالناسُ مَوْتى وأهلُ العلمِ أحياءُ.
ويُعَدُّ نُموذج الجامعة المنتجة نُموذجًا مَرِنًا؛ إذ إنَّه يُحقِّق التَّوازُن بين مهام الجامعة الثَّلاث، وهي: البحثُ، والتَّدريسُ، وخدمة المجتمع؛ على اعتبار أنَّ الجامعة جُزءٌ لا يتجزَّأ من آليَّات السُّوق ومُؤسَّسة الإنتاج وتسويق المعارف والبرامج والأبحاث المرتبطة بالسُّوق وعقد صفقات الشَّراكة مع مُؤسَّسات المجتمع الأُخرى. إنَّ نُموذج الجامعة المنتجة لا يقتصر على دُولٍ وجامعاتٍ مُعيَّنةٍ، وإنما هو نموذج يمكن لكل جامعة الأخـذ بـه، حيث طبَّق كثيرٌ من الدُّول العالميَّة والعربيَّة هذا النُّموذج لإيجاد مصادر تمويلٍ إضافيَّة للجامعة تنعكس عليها وعلى العاملين بها. وتؤكد الحكمة العربية الأصيلة أن “ما لا يتجدد يتبدد”؛ فالجامعات التي تنأى بنفسها عن تيارات التجديد والتطوير تُهدد مستقبلها بالفناء وتحكم على حاضرها بالجمود.
وخلاصة القول حول هذا الموضوع الهام هو أنَّ الاستدامة في المرحلة الرَّاهنة تُعَدُّ مطلبًا ضروريًّا للجامعات، ولا بُدَّ من تبني الاستراتيجيَّات والآليَّات الناجعة لتحقيقها، والتي تتوافق مع مقاصد الشريعة الغراء التي تحث على الإنفاق في وجوه الخير. قال تعالى: ﴿وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾.