إذا ما صمد اتفاق “بكين” بين السعودية وإيران وانعكس واقعًا على الأرض، فإنه لن يكون تحولًا جيو سياسيًا مهمًا للمنطقة والأمن الإقليمي والدولي. بل تغييرًا لمعايير القوة في الخليج.
ويمكن القول أيضًا: إن الصين تتسبب في تغيير موازين القوة ليس في المنطقة الخليجية فحسب بل في النظام الدولي. فبهذا الإنجاز تضع الصين موطئ قدم في منطقة الخليج ذات النفوذ الأمريكي بامتياز منذ عقود طويلة، وهذه نتيجة طبيعية لنجاح القوة الصينية الناعمة.
ويرى مراقبون في الخليج – ومنهم كاتب هذه السطور – أن “بكين” تُعد نفسها لشغل الفراغ الأمني الذي تركته استراتيجية الانسحاب الأمني من الخليج على ضوء الأولوية الأمريكية في جنوب وشرق آسيا لمواجهة التحدي الصيني. لكن “بكين” بهذا الاختراق السياسي تُسجل ما يمكن وصفه بتحقيق ثغرة الدفرسوار السياسية (إشارة إلى تقدم قوة إسرائيلية غرب قناة السويس بعد اجتياح القوات المصرية شرق القناة والتوغل داخل سيناء بحرب 1973).
غير أن الإنجاز الصيني المُلفت في السعي لتحقيق الأمن والسلام في منطقة الخليج – بحالة تعاون الطرفين المعنيين – سيحدث بدون تدابير عسكرية أو أساطيل بحرية جرارة، وهو ما يعني قدرة “بكين” على تغيير معيار القوة في الخليج العربي.
طوال عقود ظلت الأساطيل الغربية تمخر مياه المنطقة لردع الاعتداءات على السفن التجارية وناقلات النفط، وتوفر بالقوة أجواء العبور الآمن لخطوط الملاحة. لكن الصين بهذا الإنجاز تغير معايير الأمن وتثبت للعالم أن الأمن الذاتي بتعاون الدول المتشاطئة في الخليج يمكن أن يختصر الكثير، وتستغني المنطقة عن القوى الغربية التي لطالما استخدمت هذه الذرائع الأمنية لبسط نفوذها السياسي.
لم يعرف عن الصين في التاريخ الحديث أنها قوة عسكرية عالمية، ولم تسعَ لذلك رغم توافر الموارد. بل كانت البلاد ضحية للغزوات على مدى التاريخ حتى أقام الصينيون القدماء سورها العظيم كإجراء دفاعي؛ لذا فهي قوة مسالمة لم تُسجل تاريخًا استعماريًا استغلاليًا بغيضًا مثل فعلت كل من اليابان أو القوى الأوروبية.
وظلت الصين تنمو منذ الإصلاحات التي أطلقها الإصلاحيون داخل الحزب الشيوعي الصيني – بقيادة دينج شياو بينج – في ديسمبر 1978 حتى غدت اليوم القوة الاقتصادية العالمية الثانية بعد الولايات المتحدة.
ومع بداية القرن الحادي والعشرين بدأ العالم يشهد صعودًا لقوة الصين السياسية والاقتصادية، التي تمتلك من المقومات ما يؤهلها لتكون قوة فاعلة في مجريات الأحداث الاقتصادية والسياسية في العالم، وما يجعلها قادرة على تغيير موازين القوى، ويقول خبراء: إن النفوذ المتزايد للصين يعزز التوقعات بأن الصين ستتجاوز الولايات المتحدة الأمريكية، وتكون أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2030م.
إن القوة الاقتصادية هي التي منحت “بكين” هذا التأثير الهائل على قطبي المنطقة الخليجية (السعودية وإيران)، وأعطتها القدرة على رعاية اتفاق مفاجئ أحدث دويًا واسعًا في العالم.
أكدت نهاية الحرب الباردة أن من السهل للقوة الاقتصادية أن تتحوَّل إلى قوة عسكرية، في حين أن هناك صعوبة في تحويل القوة العسكرية إلى اقتصادية، وكما يقول “غسان العزي” في كتابه (سياسة القوة: مستقبل النظام الدولي والقوى العُظمى)؛ فإن الدول أصبحت تعتمد على قدراتها الاقتصادية أكثر من قدراتها العسكرية في لعبة القوة الدولية؛ لذا أصبحت الضغوط الاقتصادية التي تُمارسها الدول الكبرى على الدول الأخرى أكثر فاعلية نسبيًا من التدخلات العسكرية.
وفي ظل نمو معيار القوة الاقتصادية وتصاعد تأثيرها برزت الصين كقوة صاعدة تسعى إلى تغيير الوضع القائم في بنية النظام الدولي، والسعي نحو إقامة عالم متعدد الأقطاب لا سيما في ظل مؤشرات صعود وتزايد موارد القوة الشاملة للصين، وبالتالي لمكانتها ووضعها الدولي.
وبقراءة التطورات التاريخية للقوى الاقتصادية والسياسية العالمية يُلاحظ أن العالم شهد تحولين رئيسيين للقوى العالمية خلال القرون الأربعة الماضية. الأول: تمثَّل في صعود القارة الأوروبية في القرن السابع عشر بعد الثورة الصناعية؛ لتصبح قوة عُظمى في العالم، والثاني: تمثَّل في ظهور الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية القرن التاسع عشر، عندما أصبحت القوة الحاسمة اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، والتي تنفرد الآن بقيادة العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في العقد الأخير من القرن العشرين.
إن معيار القوة الاقتصادية الذي مكَّن الصين من تحقيق النفوذ بمنطقة بعيدة نسبيًا عن محيطها الإقليمي ورعاية الاتفاق السعودي الإيراني هو نفسه الذي مكَّن السعودية من تعديل ميزان القوى الإقليمية في الخليج والشرق الأوسط؛ فتباهى طهران بنشر المليشيات وإنتاج المسيرات وعسكرة الموالين لم ينقذها ولا لحلفائها من الانهيار الاقتصادي والتردي المعيشي والعُزلة السياسية والعقوبات التجارية، وبالتالي الغضب الشعبي وتهديد أمن النظام.
إذن معيار القوة الاقتصادية يدفع الصين إلى تحقيق نصر جيوسياسي في منطقة مهمة ظلت حساسة للتفاعلات الدولية على مدى قرون.
وتُشير أغلبية الأبحاث والدراسات المتعلقة بالصين إلى أن “بكين” ستعتمد على قوتها الاقتصادية والمالية الكبيرة، وأنها ستركز أكثر فأكثر على استراتيجية الاقتصاد على المدى الطويل في سبيل اعتماد دبلوماسية إقليمية وعالمية واسعة أبلغ تأثيرًا، وسوف تؤثر تلك الاستراتيجية الصينية في طبيعة التنافس الاستراتيجي بينها وبين الولايات المتحدة وشركائهما في آسيا والمحيط الهادي؛ بحيث يصبح هذا التنافس أعمق وأشد تعقيًدا وأوسع نطاقًا وانتشًارا، وتعتمد الصين استراتيجيتَين متباينتَين؛ استراتيجية (القوة)، وهي استراتيجية مباشرة (تصطدم بصعوبات متزايدة)، واستراتيجية (التأثير) وهي استراتيجية غير مباشرة تشهد تطوًرا مستمًرا.
فالصين.. من الآن فصاعدًا أصبحت قوة مادية كبيرة من النواحي البشرية والاقتصادية والعسكرية والفضائية، وهي أيضًا قوة حقيقية وافتراضية بفضل التطور المذهل لصناعاتها الدفاعية وقدراتها المالية، واستثماراتها القياسية في مجالات البحث والتطوير والتقنية.
وقد مارست الصين على امتداد عقود طويلة نفوذًا وتأثيرًا كبَيرين في محيطها الإقليمي، وهي تسعى حاليًا؛ لأن تمارس نفوذًا وتأثيرًا مماثلين على الصعيد العالمي، ولعل نجاحها المفترض في المصالحة السعودية الإيرانية يفرض منطقًا جديدًا للأمن والاستقرار يتكأ على التعاون السياسي والمصالح المشتركة برعاية ونفوذ صينيين، وهو ما يُغيَّر معادلة القوة الحامية للأمن والاستقرار في الخليج.