حينَ خرجَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلمَ- مُفَارِقًا وطنَهُ مكةَ، وسار مبتعدًا عنها، وقفَ بالجُحْفةِ مُستقبلًا ديارَهُ الأولى، فاستعبرَ وبكى حنينًا وشوقًا إلى مكةَ، فأنزلَ الله -عزَّ وجلَّ- عليهِ قَوْلَه: (إنَّ الذي فَرَضَ عليكَ القُرآنَ لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ).. أيْ: مُرْجِعُكَ ومُعِيْدُكَ إليها.
هذا الموقفُ النبويُّ، وهذه التَّسْليةُ القرآنيةُ تَقِفُنا على حقيقةِ هذهِ العلاقةِ الفطريَّةِ بين الإنسانِ والأوطانِ.
إنَّها علاقةٌ وطيدةٌ لا تحتاجُ إلى تفسيرٍ ولا إلى تحليلٍ.
علاقةٌ تتجاوزُ المشاعرَ العابرةَ، والأحاسيسَ المستعجِلة.
إن علاقةُ الإنسانِ بوطنِهِ ليستْ علاقةَ حبٍّ وإجلالٍ فحسبُ، بل هي أيضًا علاقةُ التزامٍ وعملٍ، ولذلك قال شوقي -رحمه اللهُ-:
وللأوطانِ في دمِ كلِّ حُرٍّ… يدٌ سلفَتْ وَدَيْنٌ مُسْتَحقُّ
نعم.. دَيْنٌ مستحَقٌّ لا بدَّ من الوفاء به.
ومن وفاءِ الدَّيْنِ للأوطانِ أَنْ يلهجَ اللسانُ بحبِّها، ويجريَ القلمُ بالتَّغنِّي بها.
ومن وفاء الدَّيْنِ للأوطانِ أنْ يقومَ الإنسانُ بما عُهِدَ إليه من مُهمَّاتِها خيرَ قيامٍ.
ومن وفاءِ الدَّيْنِ للأوطانِ أَنْ يحافظَ الإنسانُ على مصالحِها وثرواتِها وخيراتِها، وأنْ يقدِّم مصالحَها العامَّةَ على مصلحتِهِ الخاصَّةِ.
لقد أكرمنا اللهُ في وطنِنا (المملكةِ العربيةِ السعوديّةِ) بأنْ جمعَ لنا الدينَ والدُّنيا.
فجعل بلادَنا مَحْضِنَ الحرمينِ الشريفينِ، وجعلَ تأسيسها قائمًا على تعاونٍ تاريخيٍّ بينَ القيادة والشعب، في رباطٍ وثيقٍ لا ينفصمُ بإذن الله أبدًا.
ثم جعَلَها سُبحانَهُ مستودعَ الثرواتِ، وأرضَ الخيراتِ والبركاتِ، فأجرى عليها نِعَمَهُ ظاهرةً وباطنةً. إن واجبُ الشكر على هاتين النعمتينِ يقتضي منا أن نحافظَ على الدينِ والدُّنيا.
أما المحافظة على الدينُ فبالالتزامِ بشرعِ الله وبالحفاظِ الشديدِ على الشراكةِ التاريخيةِ بين القيادة الرشيدة والشعب السعودي الكريم، وبالحذرِ من كلِّ فكرةٍ أو دعوةٍ تُقوِّضُ هذا التناسقَ الجميلَ، وأما المحافظة على الدنيا فبترشيد استعمالِ هذه الثرواتِ، وحُسنِ استغلالها، وتوظيفِها التوظيفَ الأمثلَ.
إنّنا في مثلِ هذا اليوم (22) من فبراير من كل عام، يوم تأسيس هذا الكيان المبارك، نستذكرُ سيرةَ الجدودِ الأوائل المؤَسِّسِيْنَ، نستذكرُ مؤسس الدولة السعودية الأولى الإمام محمد بن سعود الذي جعل الدرعية عاصمة للدولة في منتصف عام 1139هـ، أي قبل ثلاثة قرون والتي استمرت 91 عامًا. وفي العام 1240هـ تمكن الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود من تأسيس الدولة السعودية الثانية. أما الدولة الثالثة والتي ننعم بظلالها الوارفة الآن؛ فقد أسسها ووحِّدَها الملكَ عبدَ العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -رحمه الله-، إننا نستذكرُ رجالاتِهِ الذينَ جادوا بأنفسهم في سبيلِ تأسيسِ كيانٍ إسلاميٍّ موحد تحد راية التوحيد يقودُ دفَّة الحضارةِ ببوصلةِ الإسلام.
نستذكرُ تاريخًا مجيدًا حافلًا من الإنجازاتِ التي تعاقبَ عليها من بعده أبناؤه البررة ملوكُ هذه البلاد الأماجدُ: سعود، وفيصل، وخالد، وفهد، وعبد الله رحمهم الله جميعًا، وأتمَّ مسيرتَها ودفعَ بها إلى الأمام: خادمُ الحرمينِ الشريفينِ الملكِ سلمان بن عبد العزيز -حفظه اللهُ- ورعاه.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يُبارك لنا في وطننا، وأن يديمَ علينا أمننا وأماننا، وأن يجزيَ خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وسمو ولي عهده الأمين مهندس الرؤية الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز -حفظهما الله- عنّا خيرَ الجزاءِ.
0