سنة الله في الكون أن تتعاقب الأجيال، وأن يتبقى للجيل الأخير بقية من الأسلاف؛ هذه البقية تختزن في ذاكرة كل فرد منها ما لا يحصى من إرث الماضي وذكرياته ومعتقداته وقيمه، ذلك المحتوى البالغ القيمة، والذي يعتبر جسرًا للعبور بين مرحلتين.
وفي مجتمعنا لهذه البقية الباقية خصوصية فريدة تتمثل في أن رجالها مناضلون حقيقيون، عاصروا مراحل الانتقال من القبائلية البدائية وارتقوا مع ارتقاء تحضر المجتمع حتى استفادوا من تقنياته وأساليبه البالغة التطور، وواكبوا الدولة منذ أن كانت حلمًا وكيانًا وليدًا حتى أصبحت دولتنا من أهم دول العالم وأقواها تأثيرًا، فمن هؤلاء من عاصر الحروب، ومنهم كابد الجوع، ومنهم من مارس الأشغال الشاقة، ومنهم من قضى من عمره ردحًا يعيش حياة البادية بأصالتها وبساطتها وإنسانيتها ووحشيتها أيضًا، وقد خرجوا من بيوت الشعر والطين والحجر، إلى أن سكنوا القصور وفنادق الخمس نجوم.
وتختزن ذاكرة الكثير من (البقية الباقية) المشاهد والمعايشات والمرويات التي تكفي لإثراء المشهد الثقافي بكل تفرعاته من شعر وسرد ورواية وقصة ومسرح وسينما وفن تشكيلي ودراسات أنثروبيولوجية وتاريخية، الأمر الذي يحتم على المؤسسات الثقافية في بلادنا الاستفادة من كبارنا استفادة حضارية فاعلة، واستجلاب ما في جعبة كل منهم ببرامج مخططة ومنهجية واضحة المعالم، ولو استنطقناهم لحدثونا بما يشبه الأساطير.
كبارنا هؤلاء هم شركاء التأسيس وجنوده، وهم عماد المرحلة الماضية بكل تفاصيلها، ومع كل نعي لرجل من المحاربين القدامى, أشعر بغصة أنه رحل ولديه مالم يوثق من الإرث الثقافي، وسيرحلون واحدًا بعد الآخر، رحم الله من مات وختم للحي بالصالحات، وسنجد أنفسنا يلوم بعضنا بعضًا على ما فرطنا، ولتخلق بعدهم فجوة حضارية كان ينبغي أن لا تكون.
0