المقالات

يا الله حيّهم .. بـ 300 ريال

الكرم عادة لا ننفك عنها في بلادنا، فقد صارت جزءاً أصيلاً من ثقافتنا، ورثناها عن آبائنا وأجدادنا – كابراً عن كابر – ومن ذلك إقامة وليمة دسمة للضيوف، الذين ندعوهم لبيوتنا بكل حفاوة، فإذا ما استقر بهم المقام في صدر المجلس، وبعد العناق والقبلات، تبدأ مرحلة القهوة و(العلوم)، وسط التراحيب وبسط الوجه.

.

قبلها … أنت كنت قد أخرجت من محفظتك لأحد أبنائك 2500 ريال بالتمام والكمال، ثمن عشاء لضيوفك الأعزاء، ومن سيحضر إلى جانبهم من الجيران والأحباب، الذين سيتحلقون حول كبشين أقرنين، تم احتوائهما في بضع صحون من المندي اللذيذ.

.

شرارة هذا المقال لمعت في ذهني، وانا أرى في وسائل التواصل الاجتماعي قبل فترة، فاتورة عشاء قديمة (متداولة)، ومماثلة تمامًا لما قلته آنفا، في مطلع المقال …. ذبيحتان فقط كانت تكلفتهما (مغسلة مكفنه) كما يقول المثل الجنوبي … فقط 319 ريالا (لا غير)

.

فأين 2500 ريال اليوم  …. من 319 ريالاً أيام زمان ؟ .. وبالمناسبة الفاتورة المتداولة – مدار حديثنا هنا – كانت عام 1385هـ أي قبل أكثر من نصف قرن من يومنا هذا.

.

في قروب عائلتي كما في القروبات الأخرى عندكم .. نشأت تعليقات مختلفة، كانت أبرز ما فيها أن الجيل الجديد قد فغر كلٌ منهم فيه بكامل استدارته، وهو يرى أن قيمة الطلي (السمين / المحترم) كانت زمان بـ 95 ريالا (لا غير) .. وهي – بالطبع – تقارب قيمة وجبة (فرختين) تطلبها عائلتك اليوم بالهاتف (توصيل) من مطاعم “الطازج” أو غيره.

.

وكنت قبل ست سنوات قد كتبت مقالًا بعنون الدجاجة في الباحة بـ 900 ريال .. تعليقًا وتوصيفًا لحالة مرت بي، عندما ابتعت من صديق لي في بلدتنا خروفاً صغيراً لـ (ثلاجة بيتنا) بذلك المبلغ الخرافي (كان الوقت حينها قمة غلاء الغنم) ووقتها احضر لي صديقي ذاك الخروف، حاملا إياه بين يديه (!!) كأنه مجرد دجاجة، حتى أودعه في حقيبة سيارتي.

.

وإذا ما عدنا بالذاكرة قليلا إلى الوراء، فإن كاتب هذه السطور كان يشترى، وهو مازال طري العود في الرابع الابتدائي، كيلو اللحم البقري بـ 2.50 ريالا فقط، من الجزار الذي كان (يبسط) في الطرف الجنوبي من (سوق الربوع) بالأطاولة ..

وكنت أطير بها – لا ألوي على شيء – إلى بيتنا، لتتحول بعد قليل إلى (قليم) نظل نغازله أسبوعاً وهو مشنوق في “شنكار” (الزافر) … تارة (نتيدم) ببضع حبات منه، وتارة أخرى نعزف عنه على مضض، ندخره لليوم التالي، على طريقة المثل الدارج: (خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود).

.

وكان يوم السوق في بلدتنا أفخم يوم في حياتي .. وبينما الناس يقولون اليوم :(هلا – بالخميس)، كنت أنا أقول: (هلا – بالربوع) !! .. لأن والدي أو جدي – أحدهما –  كان يمنحني أربعة قروش (أوووه – فخامة) .. بينما مصروفي اليومي – عادة – كان قرشين أو قرش واحد اشتري به فصفص، وقت الفسحة وسط اليوم الدراسي.

.

كثيرون وهم يعودون بنظرة (بانوراميه) إلى ذلك الزمن الجميل، يثور في دواخلهم سؤال جاهز: (وين أسعار أول – ووين أسعار اليوم ؟) والسؤال حق مشروع كتفكير بدهي، يقوله عقلهم الباطن قبل لسانهم .. منشأه رغبة جياشة بدهية في الالتصاق بالماضي بكل جمالياته من ناحية، وأمنية عزيزة من الناحية الأخرى فيما لو أن تلك الأسعار الزهيدة قد ظلت مكانها حتى اليوم.

.

لكن الأماني والرغبات شيء، والواقع ومتغيرات الحياة شيء أخر .. ففي ذلك الزمن كان دخل الفرد الشهري – كمعدل – في حدود 450 ريال .. بينما اليوم وصل – كمعدل أيضا لـ 5500 ريال

.

ولو تأملنا المسألة جيداً -على طريقة الأكاديميين ربما – في كليات الاقتصاد، وحساباتهم المعقدة فيما يعرف بـ (مؤشر التضخم) والنسبة والتناسب الطردي، لوجدنا أن أسعار السلع اليوم، هي أرخص من أسعار زمان … قياسًا بما وصل له اليوم دخل الفرد شهرياً.

هذا إن لم أكن مخطئاً .. ولكم أن تصححوا لي …  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى