انفردت المدن بحالةٍ من الضجيج والتحفت بأنواع من الصخب، وتعيش كل التحولات المحكومة بالضرورات الموضوعية، وفيها فقدنا كل صوت عذب وملمح جميل، كيف لنا أن نستمتع بأصوات الطبيعة وملامحها؟ وقد ضجَّ كل شيء من حولنا وتسارعت عجلة الحياة المقرونة بحركة السيارات وتدافع البشر، فمن كل جانب يحفنا صخب الأبواق وصرير المكائن ودوي الآلات، ازدحام شديد، تسارع وتصارع، ألمٌ في الأنفس وكَلْ في الأجساد، فالمدن أزعجت عيوننا وأزكمت أنوفنا، كل شيء هاجر منها، وزحف وتباعد إلى الخلاء، هناك حيث الحركة والسكون والتقيُّد بتعاليم ونواميس الكون والتوازن البيئي وقوانين الطبيعة، ولم يبقَ في المدينة إلا ركام الأسمنت وحمم العادم، ومسحوق الإسفلت الذي تطايره هبوب الرياح ليلطخ وجهًا آخر، وفي أحسن أحواله تتراكم رغوة سوداء فيختلط بثرى الأرض ليشوه هو الآخر وجهها المليح، ففي المدن على مدار الساعة حالة من الضجيج والصخب، لم نعد كما نحن في السابق، فقد اقتضت حد الاختناق، فلا نستطيع أن نميز الأصوات، ولا نتعرّف على أنواع روائح الطبيعة النفاذة، ولا ندرك روعة المكان الحاضن للحياة ولا يمكن أن نتعرّف على ملامح الجمال من حولنا، ازدحم كل شيء، ومعه فقدنا كل شيء، فقدنا ملامح الجمال وتفاصيل أبعاده، أين منا ونحن في المدن لصور جنادب الجراد النطاطة وملامحها الجميلة، كيف لنا أن نسمع طنين الحشرات وخترشة الدواب في خشاش الأرض، وكيف لنا أن نبصر تلاوين الفراشات وهي تحلق بألوانها الزاهية لتقـتات من رحيق الأزهار، تفرش أجنحتها في الهواء، وسرعان ما تقبضها حركة سريعة وخاطفة تُساعدها على التحليق والطيران، وهي لا تعلم أنها تبعث فينا حالة من البهجة والسعادة والسرور، أين نحن في المدينة من اليعسوب الطائر الذي يقف محلقًا في الهواء، ويغير وجهته بحركة سريعة تجعلنا نبتسم بملء أفواهنا صادقين، ونستمر في ترقب حركته ونتّبعه بأعيننا وأجسادنا فنلتف حيث حركته وننساق معه بتوهج وفرح، وفي المدن أين نحن من أشكال وأنواع العناكب وهي تنسج بيوتًا لها في مكان قصي مهمل توثق الأوتاد وتشد الطنب وتبني عرشًا لها، عوالم أخرى لا تنتهي تُوحي بعظمة الخلق وتدبير الخالق، غابت كل تلك المشاهد في ضوضاء المدن وصخب الحياة، أين نحن من دأب النمل بحركته السريعة، وهو يُعيد ما أخرج من مساكنه من حبوب وثمار بعد أن قرأ حالة الطقس التي تُنذر بهبوب الرياح وتساقط المطر، صورة حية وأغنت كثيرًا عن عالم اليوم برسائله النصية، أين نحن من شدو الطير على الأشجار وتغريد البلابل فوق الأغصان، أين نحن من ملامح ملك الطير بريشه الجميل حينما يشمخ بنفسه في أعالي المنازل في منظر يأسر الأنظار ويخطف الألباب، وهو يزهو بالتاج الذي يعلو رأسه، يهدهد بصوته، وكما تقول الأسطورة ينبئ بدخول فصل وخروج آخر، ويردد صوته في أول ساعات الضحى كمرحلة نميّز فيها مراحل الانتقال بين المواسم، كل هذا غاب تمامًا في أجواء المدن، وحتى في كل الثنائيات الوجودية التي فقدنا فيها كل مفاهيم وأبعاد الجمال، فأين نحن في المدينة وصخبها من شروق الشمس وغروبها، أين نحن من لحظات الأصيل والشمس تجري لمستقر لها، أين نحن عن كنه المغيب وأحواله ومعانيه، يالها من رحلةِ وسفرٍ طويل في عالم الطبيعة والجمال وأسرار الكون غابت عن كل المدن، ولا يكون كل هذا الجمال واستجلاء أشكاله وتجليات ملامحه، إلا في البيد والفلاوات والقرى والأودية وقمم الجبال خارج سياجات المدن، وضجيجها المزعج وازدحامها الخانق… وإلى لقاء..
– ماجستير في الأدب والنقد