قال صاحبي: لا يخلو أحدٌ من ذكريات شكَّلت منعطفًا في حياته، وتركت أثرًا لا تمحوه الأيام، قد تكون تجربة فقد عزيز أصعبها، فهل مررت بها، وكيف كانت تجربتك، وهل تجاوزتها بكل أبعادها، وما صحة ما يُقال إن الرجل يظل شابًا حتى يفقد أمه، ثم يشيخ فجأة؟
فقد عزيز أو صديق مقرب تجاوزه ليس بالأمر الهين، وفقد الوالدين، في تقديري هو الأصعب على الإطلاق، رغم اعتراض البعض على قولي في أكثر من مناسبة، وكنت أقول لهم: إن الوالدين أحدهما أو كلاهما يعطي ولا يأخذ، يتمنى لك الخير حتى وإن قصرت في حقه، يتمنى أن يراك الأفضل، يشعر بك، يراقب حركاتك وسكناتك دون شعور منك ليطمئن أنك بخير، وأخيرًا فهما باب مفتوح إلى السماء، في حياتهما ومماتهما -رحمهما الله-.
الحياة مليئة بالتجارب والذكريات الكثيرة، ولكن القليل منها يبقى في محفورًا في الذاكرة، لا يبرحها، وليس هذه هي مشكلة بحد ذاتها، ولكن ما تحمله هذه الذكريات من قصة تشعبت فصولها، وتعددت مراحلها، وفي كل محطة لها آمالها وآلامها، حتى “أصبح كل شيء يُذكرني بشيء” أعيش تفاصيله كأنه الآن، ولا أخفي عجزي عن الكتابة عن هذه الذكرى دون سواها، التي لم تغادرني تفاصيلها الدقيقة لحظة بلحظة.
كانت الصدمة الأولى عندما أخبرني الطبيب بكل هدوء وبرودة أعصاب، أن والدتي -رحمها الله- مصابة بمرض السرطان، قرأ الطبيب دهشتي، وتوقع السؤال التالي قبل أن أتفوه به، فبادرني بقوله: “الأعمار بيد الله”، وكانت هذه الصدمة لا تقل عن سابقـتها، فسألته لعل التشخيص خطأ، وربما لمريض آخر، وكيف توصلت لهذه النتيجة، ويجب إعادة الفحص مرة أخرى، ويبدو أن أصدقاءنا الأطباء فقدوا كثيرًا من مشاعرهم، نتيجة ممارستهم اليومية لحالات كثيرة، ومقابلتهم لأصناف من البشر أكسبتهم كغيرهم من أصحاب المهن، كالقضاة، ورجال الأمن، وغيرهم مناعة إيجابية أحيانًا، وإيجابية هنا عكس سلبية في الاستخدام الطبي، وبعد أن فوَّضت الأمر لله، انتبهت لنفسي وأنا أتمتم:
والشمس في كبد السماء مريضة … والأرض واجفة تكاد تمور
ثم انتقلت للمرحلة الثانية ما بين أمل وخوف وترقب، لما ستسفر عنه الحلول الجراحية باستئصال جزء مصاب من القولون، لكنها باءت كلها بالفشل، وكان لا بد من الانتقال للمرحلة الأصعب والخيار الذي لا بد منه، فالعلاج الكيماوي مجرد نطقه يُثير الرعب في النفس، فكيف باتخاذ قرار نيابة عن أعز من في الكون، فخرجت من المستشفى دون وعي، وفي شارع التخصصي الذي كان يومًا ما يصحبني فيه صوت طلال “مادام معاي القمر/ واعد أنا ثرى الطريق اللي يودي لبيتها”، صانعًا بها يومي، ودون شعور أصبحت أغاني الأم برتمها الحزين تتقافز داخل سيارتي لتزيدني حرقة وألمًا.
أصل لذلك المقهى قبيل النفق الذي كانت تستقبلني فيه يد حانية، وقلب نقي، يصطحبني للدور الثاني ليخفف عني ما استطاع، وآنى له ذلك، ففي قلبي وعيوني وعقلي هموم تزن الجبال؛ ولكن النفوس العظام تترك بصمتها ولا تتخلى عمن أحبها وأحبتها، وتدعه وحيدًا يكاد يقضي عليه الأسى، فتحتضنه بكلماتها، وتواسيه بنظراتها، وتشفق عليه من مواجهة القدر المحتوم.
مرت الأيام ببطء شديد، ونحن نترقب نتائج العلاج الكيماوي، ونشد من أزر والدتنا، ونهون عليها الأمر، ونحمد الله كثيرًا، أنه لم يتسبب في سقوط الشعر، ولكنه تسبب فيما هو أعظم، فسقطت الوالدة، ولم تستطع الحركة، وأحست بدنو الأجل، فأحضرت لي مصحفًا كريمًا أثيرًا لديها، وأهدته لي، شريطة ألا يظل حبيسًا للرف، وأعطتني العصا التي كانت تتكأ عليها، وقالت لي: “لا حاجة لي بها؛ أنت عصاي” كلمات بسيطة في مبناها عظيمة في معناها، زلزلتني ولكني تماسكت حتى لا تشعر بي، ولم يطل بها المقام حتى دخلت في غيبوبة لم تفق منها.
وتبقى ذكرى يوم الرحيل من المحفورات في الذكراة، لا تمحوها الأيام، ولا تستبدل لحظاتها العسيرة التي بدأت برنين الهاتف في صباح الخامس من رمضان، كان صوت الرنين الكئيب ينبئ عما يحمله صوت الطبيب وهو يطلب مني سرعة القدوم للمستشفى لرؤية والدتي، فأيقنت أن الروح استجابت لخالقها، ولبت الأمر الإلهي الكريم (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر: 27)؛ فاسترجعت وذهبت للمستشفى، ولا أعلم كيف وصلت!
كانت -رحمها الله- تنتظر شهر رمضان شوقًا وحبًا لهذا الشهر الكريم، وما فيه من خيرات لا يعلمها إلا من أمر بصيامه، رأيتها تكثر من الصيام طيلة أيام العام، فوافاها الأجل في شهرها المحبوب، لتنادى من باب الريان، وتفطر على مائدة الرحمن، وفي الطريق من المسجد إلى المقبرة كنت أعد ثرى الطريق وحبات الرمل إلى قبرها؛ فلم يتبقَ بيني وبين فقدان الأمل برؤيتها وعودتها للحياة إلا مسافة قصيرة.
خرجوا به ولكل باك خلفه … صعقات موسى يوم دك الطور
وفي القبر فصول طويلة أحدها كيف أدفن أمي وأهيل عليها الرمل وأدعها لوحدها!!! هل هذا جزاء الإحسان؟ ثم ما يلبث صوت العقل الغائب أن يذكرني بأن هذا من البر وسنة المسلمين، وأتذكر بيتًا لخالد الفيصل، “والله ما أحطك بالقبر لكني آمنت باللي جعل دفن المسلمين مسنون”
ما كُنتُ أَحسَبُ قَبلَ دَفنِكَ في الثَرى أَنَّ الكَواكِبَ في التُرابِ تَغورُ
قلت لصاحبي:
فقدت والدي وأنا في الرابعة والعشرين؛ فأحسست أني ابن الأربعين.. وفقد والدتي وأنا في الخمسين؛ فأحسست أني في الخامسة من عمري -رحمهما الله-.