قبل ٢٦ سنة فقدت والدي الرجل المُهاب في قومه؛ فهو شيخ العشيرة وكبيرها فقد كان مجلسه لجنة للإصلاح ومكانًا تفض فيه المنازعات والخصومات بين القبائل؛ فكنا ونحن صغار في السن نشهد ونسمع ونرى كل ما يدور حولنا؛ فنشأنا على مصطلحات الملافي والمعاديل وفتح السدة والكفال، وغيرها من المصطلحات التي رسخت في أذهاننا ونحن في مقتبل العمر، وبفقد الوالد فقدنا الكثير والكثير فأصبحنا نجتمع عند والدتنا التي كانت لا تقرأ ولا تكتب إلا أنها مدرسة في التربية والتوجيه والإرشاد؛ حيث تحفظ الكثير من القرآن الكريم عن طريق التلقي؛ فهي المربية والموجهة والمرشدة والطبيبة تكافئ وتشجع وتثني، استطاعت أن تدفع أبناءها للتفوق والنجاح، وقد كنت أستشيرها في الكثير من الأمور الاجتماعية والأسرية التي تواجهني فأجد عندها الراى السليم الصائب.
ؤمن المواقف التي لا أنساها حينما دخلت الصف الأول الابتدائي كنا ننتقل للمدرسة عن طريق سيارات النقل “الونيتات”، وكانت الوالدة تقوم بإيقاظي للمدرسة قبل صلاة الفجر، وتجهّز لي الإفطار؛ حيث إنها تحرص ألا يذهب أحد من أبنائها للمدرسة إلا بعد أن يتناول وجبة إفطاره.
فقد كانت تصطحبني سيرًا على الأقدام مسافة تصل إلى ٤ كم حتى توصلني للطريق العام، وتجلس بجواري تنتظر السيارة في وقت البرد الشديد حتى تصل لتطمئن على صعودي لها مصحوبًا بدعواتها لي بالنجاح والتوفيق.
ولن أنسى مولدات الكهرباء التي كُنا نعتمد عليها في ذلك الوقت، ويكثر أعطالها ففي إحدى الليالي تعطل مولد الكهرباء وكان أخي الذي يصغرني المهندس مسلم، والذي يتقلد حاليًا إدارة إحدى الشركات
يؤدي الاختبارات النهائية في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية، وكان لديه امتحان مادة علمية فتعطل مولد الكهرباء، وقامت الوالدة ممسكة في يدها بالكشاف اليدوي، ووجهته للكتاب الذي يقرأ فيه أخي طوال الليل حتى نفدت بطاريته قبل طلوع الفجر وقامت وأوقدت النار لكي يكمل دراسته ومراجعته على ضوئها.
لقد كنا ننام بينما تبقى هي مستيقظة طوال الليل؛ لتوقظنا في الوقت المحدد حتى لا يفوتنا الامتحان تعيش معنا جو الاختبارات، وهي تهيئ لنا كل وسائل النجاح والتفوق.
وهي الطبيبة التي تمتلك صيدلية مليئة بالأدوية الطبيعية؛ فهذا دواء نزلة البرد وهذا للصداع وهذا لآلام المفاصل، وكنا نخرج من عندها ونحن محملين بالأدوية التي ساهمت في شفائنا في الكثير من الأمراض.
لقد كانت تحرص على متابعتنا والسؤال عنا حتى بعدما كبرنا وفي الصيف الماضي كنت في نزهة بمدينة “أبها”، ولن أنسى اتصالها المستمر بي، وهي تطالبني بالحذر من البرد والانتباه للطريق والحرص على أخذ النوم الكافي وعدم السهر.
أكتب هذا المقال وأنا أسترجع الكثير من شريط الذكريات الجميلة التي عشتها مع والدتي بعد أن فقدتها في الثامن عشر من شعبان لهذا العام بعد صراع مع المرض استمر لستة أشهر، وها أنا أصوم أول رمضان في حياتي بعد فقد أمي، ولازل يتردد في أذني نصائحها ودعواتها والقصص الجميلة للجيل الماضي التي كانت تتحفني بها.
أسأل الله أن يجعل ما أصابها في ميزان حسناتها، وأن يجمعنا بوالدينا في الفردوس الأعلى من الجنة،
ولا تلوموني أنها حبيبتي…
– المحرر الصحفي بصحيفة عكاظ.