الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله النبي الأمي الطاهر الأمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد:
فيقول الحق -جل جلاله-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)) [سورة البقرة: 183].
فبيَّن ربنا سبحانه أن مقصد الصوم الوصول إلى التقوى، ونجد سيدنا المصطفى – صلى الله عليه وسلم- يقول: (التقوى ههنا) ويشير بيده إلى صدره ثلاث مرات [صحيح مسلم 2564]، ويقول – صلى الله عليه وسلم-: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ألا وهي القلب) [متفق عليه].
بعد هذا البيان الإلهي والنبوي نصل إلى نتيجة وهي أن شجرة التقوى تنبت من أرض القلب، فوجب بيان علاقة القلب بالتقوى، ووجب معرفة كيفية تهيئة القلب للتقوى.
القلب هو سلطان أعضاء جسم الإنسان، والجسد وأعضاؤه تبع له؛ لأن القلب هو الإناء والوعاء والمصب الذي تُصب فيه المدخلات الآتية من عالم الملك أو عالم الملكوت، وبحسب ما يفيض في القلب يتم إرساله إلى الدماغ؛ ليعطي الإشارة للأعضاء لتتصرف وفق إشارته.
الحواس الخمس من البصر والسمع وغيرها كل مدركاتها تصب في وعاء القلب، ولذلك أمرنا بغض البصر؛ لأن الصور المبصرة ترتسم في مرآة القلب فتُرسل للدماغ فيرسلها للأعضاء المتعلقة بذلك، وهكذا.
هذه مدخلات من الحواس الظاهرة، وهناك مدخلات ترد للقلب من أمور باطنة، وهي الروح والنفس والشيطان والـمَلَك.
والقلب وعاء تختلط فيه كل واردات هذه المصادر، والغلبة للأكثر والأقوى.
فالشيطان يوسوس ويلقي في ساحة القلب ويزيَّن للإنسان المعاصي، فإذا لم يكن للإنسان دروع واقية منه كثر تسلطه عليه، (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ(36))[الزخرف: 36]، وهو الخناس الذي يخنس ويهرب عند ذكر الله، فبقدر كثرة الذكر ودوامه يقل تسلط الشيطان القرين، ثم إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم كما أخبر- صلى الله عليه وسلم-، وجريانه في ابن آدم بحثًا عن وقود الشهوات التي يستخدمها لتحريك الإنسان نحو المعصية، والصيام هو امتناع عن الشهوات، ولذا فالصوم يضيق مجاري الشيطان بالجوع فلا يجد شهوات يشعلها، فبذلك كله يضعف الشيطان وتقل جدًا نفثاته في ميدان القلب.
أما النفس فيختلف الناس في وصف نفوسهم كما ورد في كلام الله وصفها بعدة أوصاف.. (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)[يوسف:53]، وورد وصفها باللوامة، والملهمَة (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)[الشمس: 8]، والمطمئنة الراضية المرضية (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً)[الفجر: 27].
فالأمارة بالسوء هي التي تضخ هواها ورعوناتها وشهواتها في مرآة القلب، فوجب تربيتها وترقيتها وتزكيتها (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس: 9].
وهي كالفرس الجموح يحتاج إلى ترويض حتى ينقاد لفارسه، وترويضها بعدم إعطائها كل رغباتها بل يحملها حملًا على ضد ما تريد كما يفعل في ترويض الفرس الجموح حتى يتعلم الانقياد والطواعية، ورمضان موسم ميسر لترويض هذه النفس.
والنفس الأمارة بالسوء لطيفة ظلمانية فوجب تبديد ظلامها بلطائف نورانية، وهذه اللطائف النورانية ترد من كلام الله العزيز وكثرة ذكر الله، وأفضل الذكر (لا إله إلا الله)، وهذه الكلمة العظيمة فيها نفي وإثبات وتنظيف وتلطيف.
(لا إله) تنفي من القلب ما سوى الله من آلهة الهوى والشياطين وغير ذلك (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)[الفرقان:43].
(إلا الله) تغرس في القلب عظمة الله، وأنه لا معبود سواه.
قال – صلى الله عليه وسلم-: «جددوا إيمانكم»، قيل: يا رسول الله، وكيف نجدد إيماننا؟ قال: «أكثروا من قول لا إله إلا الله» [رواه أحمد في مسنده].
وبعد هذا البيان يتبين أن شهر رمضان يسر الله فيه كل وسائل إصلاح القلب من سد واردات النفس الظلمانية والوساوس الشيطانية، فلم يبقَ شيء يصب في أرض القلب إلا الواردات الملائكية ولطائف الأنوار الروحانية (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)[الإسراء:85].
والحمد لله رب العالمين.
– أستاذ الفقه المساعد بجامعة الملك عبد العزيز