المقالات

تجليات في ارتحالات يعقوب النجدي للأستاذ خالد اليوسف

أهدتني الليلة جمالاً منقطع النظير، تجلى في بساطة الأشياء التي واربت خلفها جوهر المعنى، وبسمة صاغتها أنامل مجهدة..
‏كانت تملك المرسم، واللوحة، والألوان، وقبل أن تسقط الفرشاة، لاحت معالم الرسمة، وغنّى اللحن حروفيته المنثالة على هجير البياض الصامت، فتزينت بعد الرمادية جدارية المساء، “يعقوب النجدي”، بطل رواية الأستاذ خالد اليوسف، سفرٌ من الترحال تنوء بحمل أسبابه السردية الممتنعة مهما سهلت، بدأت في مسقط رأسه الريفي البعيد، حيث يحق للأمهات أن يرضعن غير أبنائهنّ، وتجتال قسوة الحياة وصوارف الدهر مستهل بطل الرواية، لينشأ بطريقة فريدة، تشي بما سيكون عليه مداد أيامه من مفاجآتٍ عنوانها البحث عن الذات، والتسامي عن عشوائية الملذات، والخلوص إلى صوت الأنا المتسائلة، بتجرد الباحث عن العيش الرغيد، والذي تداخلت فيه المصالح لدرجة الضيق والرغبة في الرحيل الأول، والذي تمثله الشاعر الذي قال:
ونفسك، فز بها إن خفت ضيمًا..
وخل الدار تنعي من بناها..
فإنّك واجدٌ أرضًا بأرضٍ..
ونفسك..ليس يجديك سواها..*
إلى أرض الحلم، والإجابات، ارتحلت خطى يعقوبَ مع من شاركه عناء الأسئلة، وطموح الكفاية، استجابوا لصوت البدايات المدهشة، وحطت خطاهم بعد الارتحال الأول في أول الإجابات، وهي الشعور بالانتماء، والتقدير النابع من حسن النوايا، حيث استمال لظى وحشتهم من يحسن اختيار معاوينه، فكان يعقوبُ نعم الظن الحسن، لكن إجابة واحدة لم تكن تكفيه، وسرعان ما عاد قلق السعي إلى التصاعد، فاستحال النعيم من الكفاية إلى الرغبة مجددًا في الرحيل، حيث أرضٌ جديدة، ترتسم فيها معالم الطريق التالي، اتسم هذا الترحال الثاني بإجابة على سؤال الإمكانيات، من ماديتها الصرفة وحتى معانيها الاجتماعية التي تذوب فيها قيود الريف ورقابة الفضول الملح، وإلى “العارض” حملت الخطى يعقوب ومن معه، فنالت عيونهم ما ضمئت إليه، وارتوت بالرضا بما آلت عليه، فكان لهم في السكنى ما يحسن جيرتهم، إلى درجةٍ تكفي بنضج سقف كفايتهم، ويدور الزمان، فيستحيل الحال كعادته في نبذ الدوام، وتنال مطامع التملك من المسافة الآمنة لهم، لكن المكان هذه المرة كان يتسع لأكثر من ترحال، فترحب بهم أطراف المدينة التي احتضنت ترحالهم عنها فيها، وكما تتجذر الفسيلة في غرسها، بات الزمن ينسج أصفاد البقاء على روح يعقوب، وحالت بينه وبين ترحاله المكاسب، حتى كأنما وجد كل الإجابات، وتناقص رهط الراحلين ما بين مقتصد وراضٍ، حتى بقي بطل روايتنا يشف لاعج فؤاده مرّة عن شعور، يتداعى تحت إغراء الظل الذي بات يفكر في خسارته كلما مال نحو المسير، ولم تزل رحى الأيام تدور، حتى نحتت القطرة الصخرة، وبانت مفالج القلق القديم، فكان على يعقوب وحده هذه المرة أن يواصل الرحيل، حيث يجاذبه نسيم البحر وأهازيج الفرح، فكان وطن النهار موضع إجابة سؤله التالي، وفي رحاب الكويت، بنى قيمته الصاعدة، والتي تجلت في إجابة السؤال الأخير، الذي هرب منه إليه في نهاية المطاف، ليعلن أن الفاصلة لم تكن لمحطة أخرى، وإنما ليعود منها إلى نقطة الختام، فيسكن منها إليها.

استطاع الأديب خالد اليوسف في سرديته الرائعة، أن يوافق في خافقي هوى مطاعًا نحو التحليق في آفاق الحلم، والتجول كلما لاحت معالم الغروب الوشيك، وسطرت روايته مثالاً واقعيًا؛ مهما أطره الخيال، مرهفًا؛ مهما أذلقته تلقائية الأحداث، فهنيئًا للسرد والرواية، أن مرّ يعقوب النجدي بترحاله عليها، ونقش قصته على جدارية بيتها المثري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى