تبقى شخصية “جحا” أظرف الظرفاء عبر العصور شخصية مثيرة للجدل، حيث لا يمكن الجزم عما إذا كانت حقيقة أم أسطورة ومحض خيال، وذلك على الرغم من تسلله في الوجدان العربي باتساع التراث، لاسيما قصصه مع حماره، فضلاً عن ارتباطه بالأمثلة الشعبية الدارجة من نوعية “ودنك منين يا جحا”.
وتاريخياً، يُعد الجاحظ أول من تحدث عن جحا في كتابه “القول في البغال”، ولكنه لم يحدد هويته. ويُقال أيضاً أن أقدم القصص المنسوبة لجحا تعود إلى القرن الأول الهجري، لرجل يدعى “دُجين بن ثابت الفزاري”، وكان رجلاً محباً للمزاح، قال عنه العلامة الحافظ ابن عساكر أنه عاش أكثر من 100 سنة، بل وكان من التابعين – رضوان الله عليهم-، ويقال كذلك بأن أم جحا كانت خادمة أنس بن مالك – رضي الله عنه-، وذلك وفقاً للإمام جلال الدين السيوطي في كتابه “إرشاد من نحا إلى نوادر جُحا”.
فيما تزعم مصادر تاريخية أخرى أن جحا ولد في النصف الثاني من القرن الأول الهجري (حوالي سنة 60 هـ)، وعاش في الكوفة وتوفي بها عام (160هـ) أيام خلافة أبي جعفر المنصور.
ورغم تحير الأدباء والعلماء في شخصية جحا وحقيقتها، إلا أننا نميل إلى ما ذهب إليه الأديب الكبير عباس محمود العقاد في كتابه “جحا الضاحك المضحك” (صدر عام 1956م) بعد أن درس النوادر المنسوبة إليه، حيث أشار إلى أنه من الصعب أن تكون تلك النوادر صادرة عن شخص واحد لأن من رواها ودونها بعضهم عاش فى زمن صدر الإسلام، والبعض الآخر فى زمن المنصور العباسي، وبعض آخر ظهر فى أسلوبه بلاغة تنم عن حرفة التأليف.
والشاهد أن من بين نوادر جحا ما ارتبط بشهر رمضان المبارك، ومنها أن امرأة جاءته نهاراً قبل أيام قليلة من رمضان لتشترى منه تمراً وطلبت أن يبيعها بالأجل، فوافق لأول وهلة وأعطاها تمرة لتتذوقها فاعتذرت وقالت له أنها صائمة قضاء أيام كانت قد أفطرتها في رمضان قبل خمس سنوات، فخطف جحا التمرة من يدها وصاح: “والله لا أبيعك شيئاً بالأجل، أتماطلين ربك خمس سنوات وتطلبين الشراء مني بالأجل؟!”.
ويروي أيضاً أنه قد انطلق مدفع الافطار في رمضان.. فجلس جحا وزوجته لتناول الطعام.. وتناولت الزوجة ملعقة من الحساء وكان ساخناً جداً فدمعت عيناها.. فقال لها جحا: هل تبكين؟، فردت: نعم.. لقد تذكرت المرحومة أمي فقد ماتت في شهر رمضان.. وهنا تناول جحا ملعقة من الحساء، فلسعت لسانه فدمعت عيناه، فقالت الزوجة: هل تبكي يا جحا؟ فرد: نعم.. لقد تذكرت أمك التي أنجبت لئيمة مثلك لم تحذرني أن الحساء ساخن.
أما أشعب بن جبير.. والشهير بـ “أشعب الطماع” و”الأكول”.. فقد ولد في سنة تسع من الهجرة، وكان أبوه من مماليك الخليفة عثمان بن عفان – رضي الله عنه-، وقد عمّر حتى أيام خلافة المهدي العباسي.
كما قيل إنه كان مولى لعبد الله بن الزبير وتولت تربيته أسماء بنت أبي بكر (ذات النطاقين) فتأدب وقرأ القرآن وجوّده وحفظ الحديث وتنسك، وروى عن عكرمة وعن أبان بن عثمان بن عفان وغيرهما، ولكن هزله وظرفه ودعابته صرفت الناس عن الأخذ بجدية روايته حتى قيل فيه: “ضاع الحديث بين أشعب وعكرمة”.
ومن رواياته المشهورة قوله: “حدثنا عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله قال: لا يخلو المؤمن من خلتين”. وسكت، فقيل له: “ما هما؟”، فقال: “الأولى نسيها عكرمة، والثانية نسيتها أنا”؟!.
ويروى عن أشعب أنه دخل على أحد الولاة في أول يوم من رمضان يطلب الإفطار، وجاءت المائدة وعليها جدي، فأمعن فيه أشعب حتى ضاق الوالي وأراد الانتقام من ذلك الطامع الشره فقال له: اسمع يا أشعب إن أهل السجن سألوني أن أرسل إليهم من يصلي بهم في شهر رمضان، فامضِ إليهم وصل بهم واغنم الثواب في هذا الشهر، فقال أشعب – وقد فطن إلى غرض الوالي منه-: أيها الوالي لو أعفيتني من هذا نظير أن أحلف لك بالطلاق والعتاق إني لا أكل لحم الجدي ما عشت أبداً، فضحك الوالي.
………………………..
* صحفي وكاتب مصري
0