لقد خَلَقَ اللهُ هذا الإنسانَ كائنًا اجتماعيًّا، لا تَصِحُّ معيشتُهُ مُنفردًا، ولا تَستقيمُ لهُ حياةٌ مع العُزْلةِ، فخَلَقَ له من نفسِهِ زَوجًا ليَسْكُنَ إليها، وجَعَل بني جنسِهِ شُعُوبًا وقبائلَ ليتعارَفُوا، وعلّمَهُ البيانَ ليكونَ أداةَ التواصُلِ، وسَبيلَ التفاهُمِ.
ومعَ هذهِ الحياةِ الاجتماعيَّةِ ركَّبَ فيه نوازعَ الخيرِ، فجَعَلَهُ مفطورًا على غوثِ الملهوفِ، وإعانةِ المحتاجِ، وجَبْرِ الكسيرِ، ومساندةِ الضعيفِ. تلكَ هي فطرةُ الإنسانِ السويِّ وإنّما يشِذُّ عنها مَنْ حادَ وانحرف.
وقد بعثَ اللهُ الغُرابَ ليُواريَ سوأةَ هابيلَ، ليُعِلِّمَ الإنسانَ منذُ كينونتِهِ الأولى كيفَ يتطوَّعُ لخدمةِ أخيهِ الإنسانِ حتى بعدَ موتِهِ، فضلًا عن حياتِهِ.
تلكَ الروحُ التي تشدُّ الإنسانَ لخدمةِ أخيهِ الإنسان، لا لمصلحةٍ دنيوية، بل لذاتِ المساعدةِ، وابتغاءَ أجرِ الآخرةِ هي من مقتضياتِ الإنسانيةِ الحقةِ.
ولمّا جاء هذا الدينُ العظيمُ احتفى أعظمَ الحفاوةِ بهذا العملِ الإنسانيِّ التطوُّعيّ، فقد جاءَ في كتابِ اللهِ تعالى قولُهُ: (وتعاوَنُوا على البرّ والتقوى)، وقوله: (وآتى المالَ على حُبِّهِ ذوي القُربى واليتامى والمساكينَ وابنَ السبيلِ).
وجاء في السنةِ النبوية قولُهُ -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ سُلامَى من النَّاسِ عليه صدقةٌ، كلَّ يومٍ تطلُعُ فيه الشمسُ تعدلُ بين الاثنين صدقةٌ، وتعينُ الرجلَ في دابتهِ فتحملُهُ عليها أو ترفعُ لهُ عليها متاعَهُ صدقةٌ، والكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ، وكلُّ خطوةٍ تمشيها إلى الصّلاةِ صدقةٌ، وتميطُ الأذى عن الطريق صدقةٌ).
والمُلاحظُ هنا أنَّ الإسلامَ أعطى (العملَ التطوُّعيَّ) بُعدًا عِباديًا حين جعله صدقةً، وقرنَهُ بالخُطا إلى الصلاةِ.
ولأنّ هذا (التطوّع) سمةٌ إنسانيةٌ، فإنَّ البشر على اختلاف أديانهم وبلدانهم قد احتفوا به، وقد أصدرتْ منظمة الأمم المتحدة عام 2011 تقريرها الأول عن حالة التطوع حول العالم، وكشفتْ فيه عن أهميةِ العمل التطوعي في نمو البشرية واستقرارها، وأشادت بما تضمنته الثقافة الإسلاميةُ من قيمٍ إيمانية تحفّزُ الناس لأعمال الخير.
وقد أدرك القائمون على الأمر في بلادنا العزيزة أهميةَ هذه الخصلةِ الجليلةِ، فسعوا إلى تعزيزِ ثقافة التطوع منذُ أنشئتْ جمعية الإسعاف الخيرية بمكة المكرمة عام 1354هـ، ثمّ تتابعَ عطاءُ هذه البلاد التطوّعيّ رسميًا وشعبيًا، فأُنشئتْ وزارةُ الشؤون الاجتماعية، وفي عام 1410هـ صدرت اللوائح المنظمة للجمعيات الخيرية، ثم تبادرَ الخيِّرونَ من أبناء هذا البلد المبارك ،فأُنشئت أكثر من مئةٍ وواحدٍ وثمانين جمعيةً تعاونيةً، وقامت هذه الجمعيات والمؤسسات بعمل رائدٍ في الدعوة إلى الله، وخدماتِ الحجّ والعمرةِ والإغاثة وخدمة البيئة والتعليم والتأهيل والإسكان الخيريّ والرعاية الصحية ومساعدة السجناءِ وإيجاد مراكز الأحياء. وفي عام 1436هـ تم التتويج بتأسيس مركز الملك سلمان بن عبدالعزيز-حفظه الله-للإغاثة والأعمال الإنسانية، والذي يعتبر البوابة السعودية للتطوع والإغاثة الخارجية، استفادت منه أكثر من 40 دولة حول العالم بالتعاون مع عدد من الشركاء الدوليين والإقليميين؛ كبرنامج الأغذية العالمي، واليونيسيف، ومنظمة الصحة العالمية والفاو وغيرها.
حفظ الله بلاد الحرمين المملكة العربية السعودية وقيادتها وشعبها من كل سوءٍ ومكروه.