مضى الثلث الأول والثاني، وبدأ الثلث الأخير من شهر رمضان المبارك، وأقبلت العشر الأواخر الفاضلة التي فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر قال -صلى الله عليه وسلم-: (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان). متفق عليه.
وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجتهد فيها في العبادة أكثر من غيرها، والعشر الأواخر من رمضان أفضل من العشرين التي قبلها مجتمعة، وكـل عمل صالح معظّم؛ فهو في العشر أعظم العشر الأواخر من رمضان أفضل والعمل القليل فيها كثير في الميزان عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَجْتَهِدُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِه). صحيح مسلم ١١٧٥، وعنها رضي الله عنها قالت: (كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ أَحيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئْزَر). صحيح مسلم ١١٧٤.
قال العلامة ابن باز -رحمه الله-:
“فَالمَشْرُوعُ لِلْمُسْلِمِينَ في كُلِّ مكانٍ أَنْ يَتَأَسّوا بِنَبِيِّهِمْ ﷺ وَبِأَصحَابِهِ الكِرَام رضي الله عنهم، وَبِسَلَفِ هَذِهِ الأُمَّة الأخيار، فَيُحيُوا هذه اللَّيَالِي بِالصَّلَاةِ وَقِراءة القرآن وأنواعِ الذِّكْرِ والعبادة إيمانًا واحتسابًا حَتَّى يَفُوزُوا بِمَغْفِرَةِ الذنوب، وَحَطّ الأوزار وَالعِتْقِ مِنَ النار، فضلًا مِنْهُ سبحانه وَجُودًا وَكَرَمًا”. مجموع فتاوى ومقالات ٤٢٨/١٥، وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: “فلا ينبغي لِلْمُؤْمِنِ العَاقِلِ أَنْ يُفَوِّتَ هذه الفُرصَةَ الثَّمِينَةَ على نَفْسِهِ وأهلهِ، فما هي إِلَّا لَيَالٍ معدودةٌ، رُبَّمَا يُدرِكُ الإنسانُ فيها نَفْحَةً مِن نَفَحَاتِ المَوْلَى فَتَكُونُ سَعَادَةً لَهُ في الدُّنيا والآخرة”. مجالس شهر رمضان ١٦٣.
وقال رحمه الله: “العشر الأواسط أفضل من العشر الأول، والعشر الأواخر أفضل من العشر الأواسط، وتجدون هذا في الغالب مطردًا، وأنّ الأوقات الفاضلة آخرها أفضل من أولها، ويوم الجمعة عصره أفضل من أوّله، ويوم عرفة عصره أفضل من أوله، والحكمة من هذا والله أعلم: أنّ النفوس إذا بدأت بالعمل كَلَّتْ وملت، فرُغِّبت بفضل آخر الأوقات على أولها، حتى تنشط فتعمل العمل الصالح”. اللقاء الشهري (٧١/٤).
وأكثروا فيها من قراءة القرآن الكريم؛ فرمضان يحب القرآن والقرآن يحب رمضان قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ). البقرة ١٨٥.
قال الإمام ابن الصلاح -رحمه الله-:
“قراءة القرآن (كرامة) أكرم الله بها البشر، والملائكة لم يعطوا ذلك وهي حريصة على استماعه من الإنس”. الإتقان للسيوطي (٢٧٥/١).
وأكثروا فيها من الصدقة وبر الوالدين، وصلة الرحم والمحافظة على الفرائض، وصلاة التراويح في جماعة والدعاء؛ فإن أبواب الجنة مفتحة وأبواب النيران مغلقة والشياطين مصفدة، ولله عتقاء من النار في كل ليلة من ليالي هذا الشهر المبارك قال الإمام النووي رحمه اللّٰه:
“يُستحب لِلصَّائِمِ أَن يَدعو في حَالِ صومه بِمهِمَّاتِ الآخِرة والدُّنْيا لَهُ ولمن يُحِبُّ وللمُسلمين، فيقتَضي استحباب دُعَاءِ الصَّائِمِ من أوّل اليَوْم إلَى آخِره لأنّهُ يُسَمّى صائمًا في كُلّ ذلك”. شرح المهذب (٣٧٥/٦).
فاجتهدوا في هذه العشر التي تتنزل فيها الرحمات، وتقال فيها العثرات وتغفر فيها الخطايا والسيئات، ولا تغفلوا عنها ولا تضيعوها في كثرة النوم والاشتغال بما لا ينفع ولا يفيد، وتعرضوا لنفحات الله ورحمته ومغفرته، واستيقظوا من السبات والغفلة، واغتنموا الفرصة فلا تدرون فقد يكون هذا الشهر آخر رمضان تصومونه أين من صاموا معنا رمضان الماضي من أقاربنا ومعارفنا، وكانوا يتمنون صيام هذا الشهر معنا.
تغانم العشر الأواخر وأنا آخوك **
وعوّض عن اللي بأول الشهر فاتك
العمر مهما طال ماهو بـمملوك **
يمكن تكون آخر عشر في حياتك
قال ابنُ رجب رحمه الله: “من لم يربح فِي هذا الشّهر ففي أيِّ شهر يَربح؟ من لَم يقْرب من مَولاه فهو على بُعده لا يبْرح”. لطائف المعارف (٢٠٥).
يالله غفرانك وعفوك ورحمتك
أنت الرحيم المُحسن الغفار
ويالله تهدينا بحولك وقدرتك
طريق جناتك مع الأبرار
ويا رب تكرمنا بجودك ومدتك
أنت الكريم مقدّر الأقدار
قال ابن رجب رحمه الله: “ألا وإن شهركم قد أخذ في النقص فزيدوا أنتم في العمل”. لطائف المعارف ٢٦٢.
واعتكفوا في هذه العشر لتنالوا الأجر والثواب العظيم من الله تعالى وازدادوا من الطاعات والأعمال الصالحة والزموها وتفرغوا للعبادة؛ ليختم شهركم بخير وقبول عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا). رواه البخاري.
0