قصة قصيرة بقلم:
سمير الفيل
اشتهر كارم بانطوائيته، فقد كان يجلس في المقهى بمفرده، لا يتكلم مع أحد، يطلب الشاي بإشارة من إصبعه، يرد السلام بأن يكتفي بهز رأسه، يمسك جريدته فيستغرق وقتًا طويلًا في تصفُّح أخبارها، ورغم أنه في الأربعين من عمره، فقد كان يهتم بصفحة الوفيات، بعدها يتفرَّغ لحل الكلمات المتقاطعة حيث يخرج من جيبه المكتظ بالأقلام الملونة، قلم رصاص وممحاة؛ كي يضع الحروف داخل المربعات.
يعيش في بيت منعزل عن بقية البيوت، لا تدخله الشمس، تكاد الرطوبة تفتك بعظامه حتى إنه أُصيب بداء الروماتيزم، وعالجته مستشفى حكومي بالمجان .طلب منه الطبيب أن ينتقل إلى بيت مشمس، وهو ما كان صعبًا عليه .
لا أحد يعرف كيف يحصل على المال، وهو بلا عمل، وقته يقضيه بين البيت والمقهى، قد يتسكع سويعات في الطريق بلا هدف، يذهب مرة كل أسبوع لحديقة عامة مطلة على النهر.
في إحدى هذه المرات كان يجلس بين الزهور الشاحبة القليلة، يتأمل صفحة السماء التي انسحبت شمسها أو كادت، عندما حط عصفور على فرع شجرة عال، أخرج فضلاته التي سقطت على قميصه الأبيض الذي كواه بنفسه قبل الخروج .
ألجمته المفاجأة، هو يعرف أن الموضوع بسيط، لا يستوجب التوتر لكنه ارتبك، ولم يعرف كيف يتصرف في هذا الموقف، فقد كانت جيوبه خالية من المناديل.
ثمة فتاة ظلت تراقبه، رأت ما حدث فضجت بالضحك، أشارت له بإصبعها على العصفور الذي كان يتنقل فرحًا بين أغصان الشجرة الوارفة . نظر الرجل ناحيتها واستغرقه همٌّ ثقيل فقد تصور أنها تضحك على خيبته .
سمع صوتها مهللاً : ستأتيك كسوة .
قام من مكانه، كاد يذهب إليها ليعنفها، وجدها تشبه فتاة كان يذهب إليها لشراء حاجاته من محل بقالة قريب. قرَّر التخلي عن توجسه ورأى إكمال جلسته دون أن يعاتبها .
كان اسمها نازك، وهي بالفعل ابنة بقال في طرف الشارع الذي يقع فيه بيته بمعزل عن البيوت، تعرفه وتعرف صمته وتجهمه. غيَّرت جلستها وأعطته ظهرها حتى لا يبدو أنها تراقبه، وهي بالفعل لم تكن تفعل ذلك إلا عَرَضًا .
تنبهت إلى أن في حقيبتها مناديل ورقية نظيفة، فمشت نحوه، مدت يدها بمنديل دون أن تنبس بحرف.
انتظرت أن يمد يده فلم يفعل، وجدت نفسها تحرك يدها محاولة إزالة البقعة من على قماش القميص. تراجع بظهره، وإن لم يبدِ اعتراضًا، فطن أنها تقدم له مساعدة دون أن يطلبها. تركها تفعل، وعادت إلى مقعدها دون أن يشكرها على المساعدة.
دقائق مضت، كل منهما سارح في أفكاره، ابنة البقال وهو، سمع صوت طفل صغير ينادي على أطواق الفل والياسمين. كان طفلاً يشبه النواة لكن عينيه تشعان ذكاء. أشار له بيده أن يأتي، ابتاع طوقين، ودس قطعة معدنية في يد الطفل الذي سُرَّ كثيرًا حيث إنه الاستفتاح.
همس في أذن الطفل بأمر ما، توجه الصغير نحو ابنة البقال، ضحك في وجهها ومد يده بالعقدين، أشار إلى الرجل الذي دفع ثمنهما.
توقعت أن يأتي؛ ليعتذر لها عن صمته، توجسه، توتره، غير أنه ظل واضعًا قناع الصمت على وجهه الذي بدا بلا مشاعر.
امتلأت الحديقة بالأطفال، حيث راحوا يصنعون ضجيجًا قاسيًا، أخرج من جيبه نوتة كبيرة بعض الشيء، راح يرسم شيئًا في إحدى الصفحات الخالية .
ظل لدقائق يرسم بحماس، وهي مستغرقة في دفع ضجيج الأطفال عنها لكنها لم تكن مستاءة ؛ ففي وجودهم ونس.
في طريقه إلى بوابة الخروج انحرف نحوها، مد يده بورقة مطوية، وضعها بين يديها، وانصرف.
كانت قطعة الورقة مرسوم داخلها قلب باللون الأحمر. في الركن الشرقي كانت شجرة فوق أحد فروعها عصفور يتنقل في حيرة، وكانت الشمس تملأ نصف الجانب الغربي.
في منتصف اللوحة تظهر فتاة لها وجه مشرق وفي الطرف المقابل رجل بلا ملامح، لا توجد عينان، ولا أنف ولا فم. ضحكت وهي تستغرب، لم تدرك مقصده. عادت؛ لتتأمل الشمس التي بدت كبيرة جدًّا، شديدة السطوع، معلقة، محتلة الفضاء بسطوة لا حد لها .
في الأصل لم تكن هناك شمس، ولكن بقي لون الشفق الذي بدا مسيطرًا وغامضًا. احتارت في تفسير معنى وجودها، الشيء الذي استغربته أكثر أنه كتب في جانب من الورقة “نازك”.
الماكر كان يعرف اسمها، و لم يظهر لها أنه يعرفها، لماذا لم يخبرها بكونه يعرف شخصيتها؟
طوت الورقة في يدها، احتفظت بها، أطبقت عليها أصابعها متحيرة، نظرت إلى الفضاء البعيد.
كانت الشمس تميل كليًّا إلى الغروب ولم تكن بنفس السطوع والضخامة التي رأتها في اللوحة التي لم يسبق لأحد أن أهداها مثلها!