المقالات

مكة التي نُحب

“مزدحمة.. متلاحمة.. ملبية.. راضية.. وآمنة ومطمئنة” هذه هي صفات الحشود التي أرادها الله بإذنه لكل من أتى؛ ليعتمر في رمضان هذا العام ١٤٤٤هـ. في هذا العام في رمضان يُلاحظ المعتمر الفرق في التنظيم والترتيب والطمأنينة والهدوء. هذا ما لاحظته تلك المعتمرة المواطنة في اليوم العاشر من رمضان لهذا العام. قامت بإصدار تصريح العمرة، والذي أصبحت إتاحته منذ اليوم الثامن كل يوم بيومه، وليس قبلها بأسبوع كما السابق، من خلال تطبيق “نسك” الذي يُظهر درجة الازدحام للأوقات المتاحة وهو متغير تلقائي بحسب الحجوزات التي تتم لحظة بلحظة. بدأت رحلتها للدخول إلى مكة لتُلاحظ أن الطريق يسير بسرعة ويسر رغم الزحام حتى تستكشف أحد الأسباب أن رجل الأمن يأبى لأي سيارة غير مخالفة أن تتوقف حتى لا يتعرقل السير، ناهيك إلى تعدد المسارات للحافلات والنقل العام والمواقف المختلفة. استغرق الدخول إلى مكة بسيارة يقودها سائق خاص برغم الازدحام حوالي النصف ساعة حتى الوصول إلي حيث الموقف الخاص.
تسير على قدميك لتدخل من باب الملك فهد، وتبدأ بالطواف في صحن الطواف؛ فيتحرك لسانك شاكرًا هذا الحشد الممتلئ من الطائفين الذينٍ أتوا من كل حدب وصوب، تسمع مناطقهم ولهجاتهم فتعرف من أي بلد هم؛ فكانت الغالبية في وقت ذلك الطواف من الجالية المصرية واليمنية. الكل منشغلٌ بدعائه وذكره ملبيًا لله -عز وجل-. تستغرق مدة الطواف تقريبًا ما بين 45 دقيقة إلى الساعة ما إن تنتهي من طوافك إلا وتذهب إلى حيث تقيم ركعتين من صلاة سنة ما بعد الطواف؛ فتجد مكانك فارغًا في مشاهدة المقام حيث أراده لك الله، وهي بركة الله.
نعم، إن نظرت أمامك على المدى البعيد قد تُصاب بالدوار من كثرة الأعداد لكن ما إن تنشغل بالذكر حتى تنسى كل ما قد يُصيبك من فكر. لتخترق مسامعك أذكار الذاكرين فتكرر معهم وتؤمن على دعائهم بكل الحب، ترى من يحمل ابنه على كتفيه أو ما بين أحضانه أو بين يديه؛ فتدعو لهم بالحفظ والبركة والسلامة، وترى المرأة المُسنة التي تسعى بجهدها، وهي تحمل كرسيًا خفيفًا لتجلس عليه حين رهقها فتدعو لها بحفظ عافيتها. تشكر هذا التنوع في الأعراق والأجناس والأعمار بكل الاطمئنان.
تنتهي من الطواف لتذهب إلي حيث المدخل إلى جبل الصفا والمروة لإقامة شعيرة السعي. ما إن دخَلَت إلا وتراءت لذاكرتها ذكرى ازدحام ذلك المسعى الذي ما عهدته بنفس ذلك الازدحام إلا وهي طفلة تنظر بمرأى تلك الطفلة النحيلة التي تلعب في أحجار جبل الصفا والمروة ناظرة إلى الأفق البعيد؛ حيث الساعين يرتقون ويعودون بتلاحم وسلام. ما ظننته أن عدم رؤية ذلك الازدحام منذ ذلك الحين هو التوسعة الدائمة التي تحدث في المسعى وزيادة طوابق السعي، وهو توفيق الله أن وفق ولاة أمرنا لخدمة الحرمين الشريفين والقدرة على زيادة الطاقة الاستيعابية لتصل إلى ثلاثة ملايين مصلٍّ بعد آخر توسعة مما يُتيح تلبية حاجة أكبر عدد من المعتمرين؛ وليكتب الله لك لترى الحشود المتنوعة من الأجناس المختلفة.
المدة التي يستغرقها السعي في ذلك الوقت حوالي الساعة إلا الربع إلى الساعة، وهي مقاربة لمدة الطواف الذي كان أكثر مشقة بسبب اتساع دائرة المدار. كلما طفت مقتربًا من الحجر؛ فأنت ستعاني من الرجال الضخام العراض المتلاصقين، وكلما ابتعدت عن مركز الحجر الأسود؛ فأنت تجد سعة أكثر ومسافة أكثر.
أما من يطوفون بالعربات والسكوتر (العربة الآلية بالتحكم الذاتي)؛ فلهم المسارات الخاصة التي يقوم بتنظيمها رجال أمن لدخول كل عربة وخروجها بدقة وانتظام، وهي نعمة تسخير تلك العربات لتلك الفئة من كبار السن ومن غير القادرين من المعتمرين. تم تخصيص الطواف لتلك العربات من الدور الثاني أما السعي فهو في المسارات المخصصة للعربات في أي دور كان. هذه العربات متاحة للمعتمر ليستخدمها طوال فترة أدائه للعمرة.
أكثر ما يلفت النظر ويثير الإعجاب والشكر ومما يسُّر المعتمرين، ويزيد من شعورهم بالأمن والاطمئنان رؤيتهم لرجال الأمن من الشباب الصغار المنيرين موجودين في كل مكان في الحرم يقفون بهدوء وبلا أي تدخلٍ أو كلام هم مدربون ومستعدون لإجابة أي طارئ أو سؤال. حمدًا لله أن رزقهم ووفقهم ووفق المعتمرون وأولي الأمر لهذا المقام.
تجد كل منطقة في الحرم ممتلئة دون أي موضع فارغ؛ حيث أتاحت وزارة الحج فرصة أداء العمرة للأجانب ليس فقط لمن لديهم تأشيرات أداء العمرة، ولكن لمن لديهم كذلك تأشيرة زائر. فكانت الطاقة الاستيعابية التي عمل بها موسم رمضان لهذا العام هي ١٠٧ ألف طائف في الساعة الواحدة بحسب الخطة التشغيلية التي أعلن عنها الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشيخ الدكتور عبد الرحمن السديس -يحفظه الله- وقد يزيد العدد أو يقل ومن الممكن التزوَّد بالأرقام الدقيقة في كل ساعة من ساعات العمرة من قواعد البيانات لتطبيق “نسك” الذي أصدرته وزارة الحج والعمرة، وهو يعد وسيلة عظيمة لعمل الإحصائيات والتمكين من إعداد الدراسات لتحقيق أقصى كفاءة لأداء مناسك الحج والعمرة. بعد أن تنتهي من أداء العمرة بيوم يقوم تطبيق “نسك” بإرسال رسالة لك للتعرف على مدى رضاك ولإبداء رأيك وملاحظاتك للتحسين والتطوير. الجدير بالذكر أن احتساب الأعداد وذلك التنظيم ما كان ليتم لولا تضافر وزارة الخارجية لإصدار تأشيرات العمرة بيسر ووزارة الحج والعمرة، ولولا ذلك الاستخدام للتطبيقات الإلكترونية. فبعد أن يحصل المعتمر على تأشيرة العمرة المتاح له إصدارها إلكترونيًا بنفسه فهو يقوم بالحجز لأداء العمرة عبر تطبيق نسك في الوقت المتاح له؛ بحيث لا يزيد العدد عن الطاقة المحددة بحسب نوع تصريحه. الملاحظ هو وعي المعتمرين بحيث لا يمكثون أكثر من الوقت المحدد لهم حتى لا يتسببون بالزحام كما أن تأشيرة العمرة صالحة لمدة ثلاثة أشهر وتتيح للمعتمر الإقامة لمدة شهر والتجول داخل مدن المملكة العربية السعودية.
نعم هي مشاعر تؤدى وتوفيق لاستيعاب أكبر عدد من المعتمرين لكن الشعور الأكثر أنك تخرج من عمرتك، وأنت تشعر أنك أديت هذه الشعيرة بكل الحب والرضا والدعاء لقادتنا وولاة أمرنا، ولكل من خطط ونفذ وسعى لخدمة الحرمين الشريفين.

د. رانية أنور أبو العلا

اكاديمية في جامعة الملك عبدالعزيز - كاتبة صحفية -خريجة جامعة كينت ستيت الأمريكية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى