لاشك أن الأسرة والعلاقات الأسرية واحدة من أهم الأعمدة التي تقوم عليها المجتمعات، وهو ما دفع “مكة” الإلكترونية لتخصص لها جزءا كبيرا مع المتخصصين في سلسلة لقاءات شهر رمضان الكريم، حيث نلتقي اليوم مع الأستاذ خالد عبيد الصُماني، التربوي المتقاعد والباحث الحاصل على ماجستير في علم النفس، للاستفادة من خبراته وتجربته في الحياة ببعض النصائح للشباب والكبار، عبر الحوار التالي:
** لمن يسأل عنكم أين تتواجدون في رحاب هذه الدنيا؟
_في ساحة الحصاد وجني الثمار والاستعداد لمزيد من الغراس ولله الحمد.
** وكيف تقضون أوقاتكم؟
_عادة متعتي وراحتي لا مكانية؛ فكل ما يصادفني في الحياة في كل الأوقات له متعة وراحة خاصة؛ إما لجوهرٍ ماتع فيه، وإما لتوجيه نابع منه يحركني نحو بديلٍ أجمل وأمتع وأبرك.
** ما الذي يشغل اهتمامكم في هذا الوقت الحاضر؟
_اهتمامي لا يُشغل، وإنما منشغل دومًا بمسؤولياتي الفطرية الأخلاقية والإنسانية في كل مستوى من علاقاتي: مع الله عز وجل أو مع غيره، وفي كل دوائر علاقاتي: مع نفسي ومع أسرتي ومع عائلتي ومع بيئتي ومع وطني ومع الكون، وطبيعة هذه المسؤولية تتردد ما بين القول والفعل والتفكر، والواقع المعاش يوجه مسؤولياتنا جميعًا نحو الأسرة؛ لأنها المصنع الأخلاقي لتحديد مسؤولياتنا في كل مستوى وفي كل دائرة بلا استثناء.
** الحكمة خير من الله يؤتها من يشاء.. كيف تعرفون الحكمة من وجهة نظركم ؟
_الحكمة هي قول وفعل ناتج عن تفكيرٍ صائب يعبُّر بعدل عن الحقائق تعبيرًا بلا نظيرٍ سابق، وهي وهبٌ لبعض الناس حظاهم الله به، وكسبٌ لبعض الناس ممن استفادوا من خبرات الحياة التي يعيشونها سواءً خبرات ذواتهم أو تلك التي تعيشهم من حكمة الآخرين.
** ما بين حكمة الشيوخ وهمة الشباب أيهما أقرب برأيكم.. ثمة اتفاق أو فجوة اختلاف؟
_من سمات التنظيم الإداري غير الجيد نزوع العاملين إلى كبر السن أو إلى صغر السن، فلا غنى عن أنوار حكمة الشيوخ، ولا غنى عن همة الشباب؛ لاستمرار السير في تلك الأنوار وبقائها في الحياة، فالعملية في حقيقتها تكامل وليست اختلاف عندما تقوم لغة الحوار الرصين.
** هل الإنسان في هذا العالم ضل طريق الحكمة؟ وهل بالجملة تنقصه الحكمة؟
_أولاً الحكمة باقية ببقاء الإنسان المفكر بنور العدل والصلاح، وفي الجملة الإنسان لن يضل طريق الحكمة لوضوح مسلكها، وإنما هناك طرق أخرى تنازع سلوك طريق الحكمة بزيف من بهرجها الملبي لهوى النفس، فالتربية الحقة كفيلة بتجاوز هذا التشتت في اختيار المسلك.
** في حياتنا مراحل إنسانية مختلفة.. من الضعف إلى القوة وهكذا.. ماذا تتذكرون من وقائع في ثنايا المراحل؟
_في حياة الإنسان عدة مراحل تتناسب وقدراته واستعداداته، فقد يكون الضعف في مرحلة هو قوة في مرحلة أخرى توفرت أدواته، وبذلك يمكنني أن أصف مراحل ضعفي حينما لا استخدم أدوات تفادي الضعف إن توفرت، وأصف مراحل قوتي حينما استخدم أدوات تفادي الضعف متى ما توفرت، وبالتالي ليس هناك ضعف وإنما تحدي لاستخدام قدراتنا واستعداداتنا بتوفيق من الله، وبذلك لا حرج في قول إننا نصنع قوتنا وضعفنا بطريقة تفكيرنا لأحوالنا.
** ما بين الربح والخسارة أو الخسارة والربح كيف تصفون أصعب المشاعر وأجملها؟
_أصعب المشاعر فقد إنسان أو كائن بلا موت، وأجمل مشاعري هي نعمة حياتي في كنف والدي رحمهما الله، فوالدتي كان لها الأثر الأعظم في بناء أسس شخصيتي، ووالدي كان قدوة استثنائية في الحياة بشخصيتي؛ ومشاعر فخري واعتزازي بأخواتي وإخواني الذين رسخوا ما ورثته شخصيتي من والدي؛ ومشاعر سعادتي الغامرة بمستشارتي الخاصة في الخيرات والبركات زوجتي حفظها الله وجزاها عني خير ما تجزى به امرأة نالت رضا من الله، وبرّ أبنائي ثبتهم الله على هداه وما يرضاه، وبراءة أحفادي أنار الله قلوبهم بالإيمان ودروبهم بالصلاح والفلاح، ومحبتي للناس وإدراكي لمحبتهم لي، وتعاملي مع الكون بعدل وإنصاف.
** الحزن سمة إنسانية ثابتة.. هل احتجتم له يوماً ما؟ وماهي أقسى لحظات الحزن التي مرت بكم؟
_طالما أن الإنسان بطبعه في حالة تفاعل مع محيطه بكل تفاصيله فحتمًا أن شيئًا من هذا المحيط سيكون باعثًا للحزن سواءً كان ذاتي الباعث أم غيري الباعث، لذلك أنا لم أفكر مطلقًا أن أحتاج للحزن يومًا ما؛ لكن هناك بواعث حزن لطبعي البشري، فأقسى لحظات حزني (ذاتي الباعث) هو الذي يعقب أخطائي، وأقسى لحظات حزني (غيري الباعث) وفاة والدي رحمها الله.
** التوفيق والسداد هبة من الله تعالى.. ما هي أكثر المواقف التي مرت بكم توفيقاً وسداداً؟
_هي تلك المواقف التي تنتهي بالدعاء لي نتيجة سرور الآخرين بي ورضاهم عني بحسن من ظنهم، وتلك المواقف التي أشعر فيها بصدق وفائي لأشخاص يجهلون أني فعلت ذلك، وتلك المواقف التي أمارس فيها قيمًا أخلاقية بعيدًا عن أعين الناس مع كل كائن سواء كان حيوان أو نبات أو مكان.
** بماذا نربط الحياة السعيدة من وجهة نظركم الشخصية؟
_بالقناعة والرضا بحقائق وتصاريف الواقع، إيمانًا بكونها دلالات وإشارات بتوجيهنا لنعم الله ورضاه عنّا.
** هل نستطيع أن نعتبر السعادة أسلوب حياة؟
_السعادة أسلوب حياة في الدارين؛ فمن وُفِّق للسعادة الأخرى فقد اختار لزامًا السعادة في الدنيا.
** متى يصل الإنسان إلى محطات النجاح؟
_توجد محطات عبور وليس محطات استقرار طالما لم يتوقف تخطيطه النجاح.
** ومتى تتوقف تطلعاتنا في الحياة؟
مع آخر نَفَسٍ في الحياة.
** في الأغلب ننصف الإنسان بعد رحيله من دنيانا.. متى ينصف الإنسان قبل أن يرحل؟
_لا أجد حرجًا في قولي أن الإنصاف بعد الممات ليس إنصاف وفاء وامتنان طالما حان وقته في الحياة وأرجئ لما بعد الممات، فهذا الإنصاف هو بمثابة هوس لتباهي المنصف أمام غير مستحق الإنصاف الحقيقي، وفي ذات الوقت يمكنني القول بأن الشعور بالإنصاف قبل الرحيل أحد المستحيلات عند من ينتظر الإنصاف من جميع البشر وفي كل المواقف، لكن هناك نوع من الإنصاف متاح لكل إنسان وللأسف لا يشعر به كل إنسان وهو أن يجد الإنسان في موقف بعينه إنصافًا من إنسان آخر يغنيه عن إنصاف جميع البشر الأحياء.
** في الاستشارة.. من يستشير ضيفنا الكريم في مواقفه الحياتية المختلفة؟ ولماذا؟
_استأذنك أن أغير السؤال إلى “من لا يستشير ضيفنا الكريم؟”، فالإجابة لا يوجد من التقيته في حالة حاجتي لاستشارة وأتوانى عن استشارته، فأنا أستشير أحفادي لفهم لغتهم، وأستشير الضعفاء لفهم حاجتهم، وأستشير المحتاجين لمعرفة حاجتي لهم كأحد أبواب الخير، وأستشير أبنائي لفهم جودة مواقفهم، وأستشير الخبراء لمعرفة نجاعة طرائقهم.
** وما هي أهم استشارة مضت؟
_استشارة إحصائية من سعادة أخي الحبيب الدكتور خالد الجضعي، ومن سعادة أخي الحبيب الدكتور حسين فلمبان حفظهما الله ذخرًا لي.
** متى غض النظر ضيفنا في المواقف المصاحبة له؟
_أغض نظري في المواقف التي لا يكون القصد قائمًا فيها، فهو أسلوب مريح للتعايش، وأغض نظري في المواقف التي يكون الجهل مُستَحكمًا فيها، فهو أسلوب مريح للعبرة.
**وهل تذكرون بعض هذه المواقف؟
_كل المواقف التي يكون طرفها مسيء بلا قصد أو بجهل بشرط ألا يكون: محاميًا للشيطان، أو داعيًا للخسران، أو مجاملاً لحاضر على ظلم غائب، أو مُصرَّا على بهتان بيّن.
** هل ندمتم على سكوتكم يوماً؟
_لم أندم على سكوتي يومًا ما؛ وإنما ندمت لاحقًا على غياب الرد العادل المناسب الذي حل محله سكوتي.
** ومتى ندمتم على بعض كلامكم؟
_حينما أجد لاحقًا كلامًا بديلاً ألطف منه مبنى ومعنى يعمّق الودّ بيني وبين محدثي.
** في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة أحاديثنا تختلف عن واقعنا.. إلى أي مدى صحة هذه الجملة؟
_صحيح بدرجة كبيرة؛ لأنها تزيح الأقنعة عن واقع بعض الناس، فقد أزاحت الأقنعة عن أناس تعلموا ولم يتربوا، وعن أناس تحسبهم جُهالاً وهم صامتون.
** في حياتنا اليومية هل افتقدنا حقيقة إلى الإنسان القدوة؟
_لا توجد قدوة كاملة إلا في شخص حبيبنا ونبينا وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما واقعنا فهناك جوانب من القدوة موزعة بين البشر بقدر نضج تلك الجوانب في كل شخص تستحق أن نقتدي بها، فقد تقتدي بورعٍ من فلان وعلمٍ من فلان وصدقٍ من فلان وحكمةٍ من فلان، فنخلص إلى مزيج من القدوات موزّعة لم تجتمع في شخص واحد مهما بلغ إلا من استثنيناه في بدء الكلام عليه أفضل الصلاة والسلام.
** الأبناء في الوقت الحالي هل يحتاجون إلى الرأي والمشورة منا؟ وهل المسافات بعدت بيننا وبينهم؟
_بل هم في أمس الحاجة للرأي والمشورة من والديهم إن كانا أهلاً لذلك في كل مرحلة من مراحل الحياة، فنحن الآباء والأبناء من يصنع المسافات؛ بتقليل فرص الجلوس معًا بتبرير من سرعة نمط الحياة، وبتعميق القناعة بالجماعة المرجعية، وبوضع قيود على إفصاح الأبناء بالأخطاء بسبب مآلات العقاب، فمتى ما تعامل الآباء مع أخطاء الأبناء بعيدًا عن العقاب سيكون الآباء أول مستشار لأبنائهم في كل صغيرة أو كبيرة إن لم يكونوا الأوحد، وأيضًا تقصير الآباء في التربية النمائية (البنائية) والاقتصار على التربية (الوقائية والعلاجية)؛ وللتوضيح التربية العلاجية تهدف لمساعدة الأبناء على معالجة الأخطاء المزمنة وتخليصهم منها، والتربية الوقائية تهدف لمساعدة الأبناء على تخليصهم من الوقوع في إزمان الأخطاء منذ بدايتها أو حتى الحوم حولها، أما التربية (النمائية) فهي موجهة للأبناء الأسوياء الذين لم يقعوا في أخطاء أصلاً ولم يحوموا في حماها البتة، لأن التربية (النمائية) تهدف إلى غرس وتعزيز وتطوير الجوانب الإيجابية في سلوك وتفكير ومشاعر الأبناء، ليكونوا قادرين على تفادي السلبيات المضادة لتلك الإيجابيات، مثلاً: متى ما عززنا وعمّقنا في أبنائنا الأسوياء قيمة الصدق سيتفادون الكذب، وإن عززنا لديهم الفضيلة سيتفادون الرذيلة، وبالتالي نحن نعزز بناء الصواب؛ لتفادي الخطأ المضاد، للأسف كثير من الآباء لا يبدأ دورهم إلا في المرحلة العلاجية عندما تقع الفأس في الرأس.
** الدنيا طويت على غرور.. متى وجدتم هذه العبارة ماثلة أمامكم؟
_لست أنا من وجدها بل جميعنا يجدها في المنبهرين بذواتهم المعرفية المكتفية بقليل المكنة من المراس والعلم، ولذلك قال الفقهاء (من اتسع علمه قل إنكاره)، وربما من المناسب أن نقول في بقية مجالات الحياة (من انبهر بضيق علمه زاد غروره)، هذا من الناحية المعرفية البحتة، أما من حيث الطبيعة الشخصية فهناك أشخاص حرموا التواضع وتقدير الذات ليحل محلهما الغرور وتضخم الذات، سواء بسبب سطوة: مكانة اجتماعية، أو مكانة اقتصادية، أو انتماءات طائفية، أو سمة جهوية، أو سمة عرقية، أو تربية أسرية فوقية.
** من أنبل الناس في رأيكم؟
_أنبل الناس من كان طاهر السريرة وصادق الطوية والعادل بالسوية والمجافي للرزية.
** المحبطون هم أشد الناس تعاسة هل صادفتم هذه الفئة؟ وكيف تعاملتم معها؟
_صحيح لأنهم يضعون عقبة الإحباط أمام كل نجاحاتهم التي قد تغمر حياتهم بالسعادة التي حرموا منها، ولا يمكن تخليصهم من ثقافة الإحباط إلا بإشراكهم في التخطيط والعمل؛ لتحقيق النجاحات التي كانت موطنًا راسخًا لإحباطاتهم القائمة على تعميم خاطئ لخبراتهم، حينها سيقف الكثيرون منهم على زيف تعميم تلك الأفكار والمشاعر التي كانت أغلالاً على سعادتهم بالنجاحات الممكنة.
** هل ندمتم يوماً في النقاش مع أصحاب الوعي والإدراك؟
_لا على الإطلاق، لأني أنهل من عظيم علمهم وأتبنى جميل فكرهم وأسلك آمن مسالكهم.
** وهل ندمتم في النقاش مع غيرهم؟ ولماذا؟
_لم أندم على الإطلاق في نقاشٍ مع غير الواعين والمدركين؛ لأني تعلمت منهم كيف أدير ضبط النقاش لاحقًا معهم ومع أقرانهم حفاظًا على علاقاتنا المتبادلة.
** هل من كلمة أخيرة لضيفنا الفاضل؟
_شكرًا لأخي الحبيب الغالي الأستاذ عبدالرحمن الأحمدي القائد الرائع لهذا الحوار الذي أسأل الله التوفيق فيه، وأسأله جلّ في علاه أن يتقبل من القارئين والمسلمين صيامهم وقيامهم ويبلغهم فضل ليلة القدر ويجعلني وإياهم أجمعين من المعتوقين من النار والمعفو عنهم برحمته وفضله ومنته وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.