لم يكن يحل هذا الضيف العظيم على أنفسنا وفي أيام معدودات حتى بدأت ملامح الاستعداد للرحيل تظهر وعلى عجل، فكأن أول يوم صيام مر علينا بدأ قبل ساعات معدودة فقط .. ! وكأن إعلان دخولك ياشهر الرحمة هو بمثابة إذن لقرب رحيلك الحزين.. ! للأسف هي هكذا الأوقات الفاضلة تذهب متسارعة. ونحن وصلنا هنا إلى الرمق الأخير من أيام الشهر الفضيل، ولكن هذا هو حال تقارب الزمان قبل قيام الساعة كما ورد في الحديث الشريف لسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكن هذا الضيف الجميل يأتينا إلا وقد بلغ منا الشوق مبلغاً عظيماً من لهفة الانتظار الممتلئ بالمحبة والتفاؤل والأمل والبهجة ببلوغ الشهر المبارك ولله الحمد والمنة.
شهر فريد تتنزل فيه الرحمات من الرحمن الرحيم على قلوب المسلمين والمسلمات فيشعر الجميع بسعادة غامرة لا تشابهها أي سعادة في الحياة الدنيا وكأن لسان الحال يقول: ليت السنة كلها رمضان.. ليت السنة كلها صيام وقيام، وكالمعتاد يتسابق الصائمون بحب جارف، ورغبة كبيرة من خلال تنافس واضح في إتيان العبادات كافة وعلى أتم وجه، وعلى قدر الاستطاعة.. ويكون قمة هذا التنافس في العشر الأواخر من الشهر الفضيل.. وهو بمكانة الحصاد النهائي من التزود بالأعمال الصالحة: من أداء الصلوات المفروضة، والسنن الرواتب، وقراءة القرآن الكريم، والصدقات، والقيام لصلاة الليل، والاعتكاف وخاصة حين يتخلل تلك الليالي ترقب ليلة القدر وهي ليلة خير من ألف شهر مجتمعة. وتكون بطبيعة الحال الجوامع والمساجد مكان اهتمام وانشغال للمصلين بالتقرب إلى المولى عز وجل بكل ما يحبه ويرضاه؛ طمعاً في المغفرة والرحمة والعتق من النار.
يا شهر رمضان المبارك.. ياشهر الخير.. أيها الشهر المبجل حينما تقبل علينا وتحل نسماتك اللطيفة على صدورنا ترفق بنا في خطاك المباركة، وتمهل علينا في صباحاتك الصافية، وفي مساءاتك الباهية، وليكن تواجدك مابين كل صباح وكل مساء مسافات بعيدة من الزمن الطاهر، ومابين كل صباح وكل مساء مسافات طويلة من الأوقات الشريفة، ولتكن ياشهر المحبة دقائقك بمنزلة الساعات، وساعاتك بمقدار الأيام، وأيامك كأنها شهور، وشهورك بمثابة سنوات مديدة فلم نجد ولن نجد في كل الأحوال شهراً يضاهيك في بركاتك، ويشابهك في خيراتك، ويماثلك في طيباتك.. فأنت الجمال المشرق، والكمال الباهر ياخير الشهور.
وعلى أي حال هذا رجاؤنا المنبثق من أقصى دواخل وجداننا، ومهجة أبعد أعماقنا، ولكن عزاؤنا في أمر رحيلك المؤلم على قلوبنا أن من أوجدك في هذا الكون الفسيح رب حي قيوم دائم يقبل من الخلق عباداتهم في كل وقت وحين، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، فالصلاة بفضله قائمة، والزكاة بأمره دائمة، والصدقة بكرمه مستمرة، والخير كل الخير لا ينقطع لحظة، ولا ينتهى أبداً والأمل كل الأمل من المولى عز وجل دخول جنة عرضها السموات والأرض برحمته بغير حساب ولا سابقة عذاب، ونسأل الله تعالى أن يعيد علينا وعليكم شهر رمضان المبارك ونحن في أمن وأمان وفي أتم صحة وسلامة.