اكتمل القمر قبل أيام وأطل بدراً ثم بدأ يتلاشى إيذاناً بالرحيل فهذه اليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان الفضيل، والتي فيها خير كبير، فإن كان قد مضى معظمه، فقد بقي أعظمه، وأعظم ما فيه ليلة القدر التي اختصها الله بمزيد رحمة ومغفرة ومزيد عتق من النيران، والتي ينبغي علينا أن نجتهد في الإقبال على الله حتى يكرمنا الله بأن ننال خيرها، ذلكم الخير الكبير والفضل الجزيل.
ومن فضائل العشر الأواخر من رمضان أن فيها ليلة القدر، قال الله تعالى: “حم. والكتاب المبين. إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين. فيها يفرق كل أمر حكيم. أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين. رحمة من ربك إنه هو السميع العليم” (سورة الدخان: 1- 6).
وقد سماها المولى تعالى ليلة القدر، وذلك لعظم قدرها وجلالة مكانتها عند الله ولكثرة مغفرة الذنوب وستر العيوب فيها فهي ليلة المغفرة كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه” (رواه البخاري).
كما أنزل الله تعالى في شأن ليلة القدر سورة تتلى إلى يوم القيامة، وذكر فيها شرف هذه الليلة وعظَّم قدرها، وهي قوله تعالى: “إنا أنزلناه في ليلة القدر . وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خير من ألف شهر. تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر. سلام هي حتى مطلع الفجر” (سورة القدر).
ويمكن جمع خصائص ليلة القدر فيما يلي:
– أولاً: أنه قد نزل فيها القرآن – كما سبق القول-، حيث قال ابن عباس – رضي الله عنهما- وغيره: أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم (تفسير ابن كثير).
– ثانياً: وصْفها العزيز الحكيم بأنها “خير من ألف شهر” (سورة القدر)، ووصفها بأنها مباركة في قوله : “إنا أنزلنه في ليلة مباركة” (سورة الدخان).
– ثالثاً: وصفها بأنها تتنزل فيها الملائكة، والروح ، أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحِلَق الذِّكْر ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيماً له . والروح هو جبريل عليه السلام وقد خصَّه بالذكر لشرفه (تفسير ابن كثير).
– رابعاً: وصفها الحق تبارك وعلا بأنها سلام، أي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا أو يعمل فيها أذى، وتكثر فيها السلامة من العقاب والعذاب بما يقوم العبد من طاعة الله عز وجل.
– خامساً: أن الله تعالى يغفر لمن قامها إيماناً واحتساباً ما تقدم من ذنبه ، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه” (متفق عليه). وقوله: “إيماناً واحتساباً” أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه وطلباً للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه (فتح الباري).
وقد كان من هدي النبي – صلى الله عليه وسلم- في العشر الأواخر أن يعتكف من شهر رمضان لكي يتحرى ليلة القدر، وفي فعل النبي الكريم حث لباقي الأمة على الاجتهاد في العبادة في هذه الأزمنة المباركة. وفي الصحيحين من حديث عائشة – رضي الله عنها- أن النبي – صلى الله عليه وسلم- “كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد مئزره “(رواه البخاري). و”شد مئزره” : كناية عن الاستعداد للعبادة والاجتهاد فيها زيادة على المعتاد ، ومعناه التشمير في العبادات.
وأخيراً.. لا يخفى أن الحكمة من إخفاء ليلة القدر تظهر في أن الله – سبحانه وتعالى- أراد من عباده الاجتهاد في العبادة في الأيام العشر الأخيرة، لأنه لو علموا أنها ليلة واحدة سوف تقتصر عبادتهم عليها فقط، فاللهم إنا نسألك أن تغفر لنا تقصيرنا فيما مضى من رمضان وأن تعيننا على ما بقى منه، وأن تبلغنا اللهم فيه ليلة القدر ولا تُخرجنا منه إلَّا وقد اعتقت رقابنا جميعاً من النار. اللهم إنك عفوٌ كريمٌ تُحبُ العفو فاعفو عنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلاةً وسلاماً على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
– كاتب ، عضو مجلس إدارة شركة مطوفي حجاج أفريقيا غير العربية
khalid.alawii@hotmail.com