في كل بلد واجهات مؤسسية وثقافية ومكانية وشخصية يكاد أن يعرفها الكافة حتى لو لم يكن لهم بها عناية أو تعلّق أو اختصاص؛ ويختلف عدد الواجهات قلة وكثرة حسب البلد وتاريخه وحجمه وعراقته تحرص الدول عليها بالحق أو بالتصنع. والحمدلله أن جعل بلادنا المملكة العربية السعودية عريقة أصيلة كثيرة الواجهات الباهرة المشرقة، التي يعلم عنها الزائر قبل مجيئه، ويتعامل معها ما أن يبدأ في إجراءات الزيارة أو القدوم، ثمّ يعاينها ويعايشها ويتفاعل معها أينما ذهب أو جال أو ساح في البلاد، والله يديم لديارنا الحفظ القوي، والموضع السني، والأثر البهي، والخير الجلي.
وأجلّ واجهة لا يجهلها قادم إلى السعودية غالبًا، وتهفو لزيارتها نفوس المسلمين القادمين للمملكة حتى لو جاءوا لأغراض دنيوية صرفة، وتتوق لها أفئدة مئات الملايين من أهل الإسلام وهم ماكثون في بقاع قصية، هي المسجد الحرام بمكة والمسجد النبوي في المدينة؛ فنحن بلاد الحرمين، وأهلهما، وحماتهما، وخدامهما، حتى لو نَفَر من هذه التسمية وعنها نفرٌ بزعم أنها منافسة أو مناقضة للاسم الرسمي؛ وليس بينهما منافسة أو نقائض، بل في القرب من الحرمين مغنم ديني ودنيوي للسعودية عظيم، ولو رزق أولئك شيئًا من حكمة مشركي قريش لعلموا علم اليقين أن الحرمين لبلدهما السعودية ميزة يُساق لها ماء العيون، وأنفس الأرواح، وليس الكبريت الأحمر فقط، وهو البُعد الإستراتيجي الذي وفق الله ولاة الأمر إليه، وغاب عن بعض من يكتب أو يتحدث بلا توفيق ولا حتى تفويض.
فمنذ تكوين الدولة السعودية الثالثة وللحرمين المكي والمدني مكانة عظمى لدى الملوك، وفي الموازنات المالية، ولهما اعتبارهما في كثير من القرارات، ولا أدل على ذلك من أن الملك عبدالعزيز خصّ مكة بنجله الثالث الأمير فيصل نائبًا عنه، وجعل الأمير محمد وهو النجل الرابع له أميرًا على المدينة، وأوجد الملك المؤسس من فوره إدارات ولجان تُعنى بالمسجدين وشؤونهما في العلم والوقف والدعوة والحسبة والعمارة، وهو الإجراء الذي تطور إداريًا مع التطورات الحادثة في هياكل الدولة، وهي تغييرات تشير إلى الحيوية من ناحية، وإلى الاهتمام من ناحية أخرى؛ ذلكم الاهتمام الذي يرسخه الاستقرار الحكومي الرفيع في مكة وبجوارها خلال شهر رمضان وموسم الحج
ومن ذلك أيضًا أن صدر مرسوم ملكي فيصلي في اليوم الثامن عشر من شهر ذي القعدة عام (1384) بإنشاء الرئاسة العامة للإشراف الديني على المسجد الحرام، وسمي سماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد أول رئيس لها، وفي تسمية هذا الإمام الحبر القاضي البارع الذكاء رئيسًا لهذا الكيان الجديد دليل على ما تمثله الرئاسة في الوجدان الحكومي. وفي عام (1397) أصدر الملك خالد أمره بإنشاء الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين، وأول رئيس لها بعد هذا التعديل هو معالي الشيخ ناصر بن حمد الراشد، وفيما بعد دمجت جميع الإدارات العاملة بشؤون الحرمين تحت هذه الرئاسة التي أصبح اسمها عام (1407) الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي بموجب أمر من الملك فهد.
ويحفظ التاريخ أن الرئاسة تعاقب عليها رؤساء من العلماء الكبار، والوزراء العظام، وأساتذة الجامعات، وأعضاء هيئة كبار العلماء، وهم حسب الترتيب الزمني: الشيخ عبدالله بن حميد، ثمّ الشيخ ناصر الراشد فالشيخ سليمان بن عبيد الذي تلاه الشيخ محمد السبيل، وبعده أسندت الرئاسة للشيخ د صالح بن حميد وعقب تعيينه رئيسًا لمجلس الشورى أنيطت هذه المهمة الجليلة بالشيخ صالح الحصين وبعد وفاته أصبح الشيخ د.عبدالرحمن السديس الرئيس السابع للرئاسة الواجهة.
ومما يناسب ذكره بخصوص أصحاب السماحة والفضيلة والمعالي الرؤساء، أن سماحة الشيخ ابن حميد ترأس بعد رئاسة شؤون الحرمين المجلس الأعلى للقضاء، وفي أيامه افتتح معهد الحرم الذي تطور لاحقًا وصار كلية، وأن الشيخ القاضي الراشد كان رئيسًا لديوان المظالم ولتعليم البنات قبل إحالة مهمة هذه الرئاسة له، بينما عاصر الشيخ القاضي ابن عبيد فتنة احتلال الحرم زاده الله منعة، وكان الشيخ ابن سبيل أول إمام وخطيب للحرم يرأس هذه المنشأة، وقد قابلته وهو يتجول وحده في سطح الحرم، ويتابع الأعمال بنفسه.
كما يُعدّ الشيخ د.صالح بن حميد ثاني الأئمة والخطباء الرؤساء، وأول رئيس خلف والده في منصبه بالرئاسة، والرئيس الوحيد الذي جمع مع رئاسة شؤون المسجدين رئاسة مجلس الشورى ورئاسة المجلس الأعلى للقضاء. ويُروى أنه بعد تعيينه رئيسًا لمجلس الشورى طُلب إليه ترشيح عدة أسماء؛ فكان منهم الرئيس الذي خلفه مباشرة وهو الشيخ صالح الحصين، وهو إذ ذاك مجاور منفرد في المدينة النبوية، وقد راق الترشيح لولاة الأمر، وشكروا فطنة الشيخ صالح بترشيحه للشيخ الصالح، وتعجب من هذا الترشيح الشيخ الكبير الحصين الذي ظن أنه قد تخفف من المسؤوليات والمناصب الرسمية بعد استعفائه عام (1394) من آخر منصب له وهو وزير دولة وعضو في مجلس الوزراء وما عرف أن عددًا منها ينتظره في الغيب المسطور، وأن سيرته الإدارية سيضاف لها المزيد، وليت أن أحدًا ينهض للكتابة عن الشيخ الحصين إداريًا ومؤسسًا.
ثمّ عُهد بالمنصب إلى الرئيس الحالي وهو السابع في الترتيب، والثالث من الأئمة الخطباء؛ بل من أشهر الأئمة في تاريخ الحرم المعاصر، وهو أول رئيس خطب في الحرمين وعلى منبر عرفة ش وفي رئاسة الشيخ د.عبدالرحمن السديس أكمل جهود السابقين ولم ينكرها أو يشغل نفسه بمحو مآثر السالفين كما يصنع آخرون؛ بل أطلق أسماء الراحلين منهم على قاعات الرئاسة، ووضع للرؤساء والنواب مكانًا في الإصدار التعريفي عن الرئاسة، الواقع بأربعمئة صفحة؛ كي يقرأ الناس سيرًا مختصرة لهم.
وانطلق الشيخ السديس مع فريقه في مسار تطويري علمي، وإداري، وتقني، وهيكلي، وخدماتي، ولغوي، وهو الأمر الذي لا يملك منصف إلّا أن يشهد له، ويشيد به، والكمال عزيز، والتصحيح وارد، وسماع المقترحات متاح عبر أكثر من وسيلة إلكترونية أو حضورية كما نرى في موقع الرئاسة الشبكي، وكما أعلم بالتجربة الشخصية، وبالرواية، وأذكر أني سمعت معالي الشيخ ابن حميد في درسه بالحرم بعد صلاة الفجر يقول: أرسل أحدكم لي معلومة عن أمر ما، وحاولنا التحقق فلم نعثر على ما ذكر، وأتمنى أن يحضر لي لأتبين المراد، وأستفهم منه مباشرة، أو كلمة نحوها. وأرسلت مرة لمعالي الشيخ السديس فأجاب عن مقترحاتي بسرعة واحتفاء، وبعض الموظفين لا يكاد أن يرد على هاتف، أو يجيب رسالة بريد مُأيمل؛ فتأمل!
إن الرئاسة بوكالاتها وإداراتها وطواقمها القيادية والميدانية والمكتبية، لتؤدي أعمالًا عظيمة في مواجهة الحجاج والمعتمرين والزوار والمصلين والمعتكفين، وتستقبل مئات الملايين الذين ربما لا يعرفون بلادنا من غير هذه الواجهة الشريفة المنيفة. وقد أحسنت الرئاسة في أعمال كثيرة، وتجاوبت مع مقترحات عديدة، وفتحت النوافذ للجميع عبر سبل التواصل الورقي والإلكتروني والمباشر، وقمين بنا أن نتفاعل معها بعد الشكر بالمؤازرة والدعاء، وإبداء الآراء التي لن تجد لديهم غضاضة، وربما سارعوا إلى تنفيذ الرشيد الممكن منها.
ومن هذا الباب تميزت الرئاسة في تطبيقاتها التي تدل وترشد، وتترجم وتوضح، وتعطي للسائل المعلومة التي يبحث عنها وأزيد، وكم في هذا الباب من فرص للوصول إلى كل من زار الحرمين وتنّعم بأجوائهما وجوارهما؛ ليستفاد من رأيه وتقييمه، سواء فيما يخص شؤون الحرمين، أو الشؤون المحيطة بهما إذا كانت المؤسسات الحكومية الأخرى ترغب بالاستفادة من الآراء وسماع وجهات النظر، وأظنها تريد لأنها مساءلة متابعة محاسبة، وغايتها من قبل وبعد تقديم الخدمات الراقية، وزيادة جمال الصورة الذهنية عن البلاد وأهلها بحسن الأداء والتمثيل.
كما أن للرئاسة جهودًا عظيمة في نشر العلم عبر الكليات التي كانت معاهد فيما مضى، وبالدروس والمحاضرات والخطب التي تنقل عبر المنصات الإلكترونية، وتترجم أحيانًا حتى لمن لا يسمع، وفي إتاحة الوصول إلى المفتين، والمرشدين. ومن جهودها رعاية المعارض الخاصة بالحرمين الشريفين والسيرة النبوية العطرة، وإتاحة زيارتها لمن شاء، وكذلك التعرف إلى مصنع كسوة الكعبة، وتيسير سبل الحصول على التصاريح. ويمكن للرئاسة أن تستثمر رغبة الوفود بزيارة الأماكن التاريخية في البلدين المقدسين، وهو استثمار رابح بمعناه الواسع، والسبل له متشعبة.
ومنها النشاط الإعلامي بإبراز أخبار الحرمين، وجداول الخطباء والأئمة، ونشر بعض المقاطع المرئية والصوتية، ومن بديعها تلك الصور الآخذة بالقلوب والأرواح للحرمين، وازدحام الجموع فيهما، وتفاني العاملين ولو كانوا في حراسة أو نظافة، وصور غسيل الكعبة، وكسوتها، وتعطيرها، ومنظر البيت العتيق من علو، ولقطات المسجدين من زوايا وأبعاد مختلفة، والصور التي تظهر الجموع المتراصة، ومشاريع الإفطار والسقيا، وهي صور صامتة جدًا بيد أنها في التعبير أحسن وأصوب وأقرب لبعض النفوس من ألف فصيح، وألف لبيب، وألف خطيب.
ألا فليبارك ربنا تلكم الأعمال الكبيرة التي تمسّ البلاد وسمعتها من خلال زائريها الذين يستهدفون الحرمين بحج، أو عمرة، أو زيارة، أو اعتكاف، أو طلب علم، أو إجراء دراسة، وحتى لو كان أصل مجيئهم لمآرب أخرى، ومنافع متباينة. والحمدلله أن جعل بلادنا الغالية حاضنة للمسجدين الأقدسين في مكة والمدينة، ومستوعبة لأكبر مساحة من الجزيرة العربية بما لها من فرادة وخصائص، ومنها وجود الحرمين والحج والعمرة التي لا يمكن لأحد أن يجاري بركاتها ولو فعل ما فعل.
وأسأل الله أن يوفق ولاة الأمر وسدنة البيت العتيق، وأن يسدد من استعملوا من أعوان للإخلاص والإبداع، وييسر لهم، ويقويهم على ما يتولونه من مهام ثقال ترنو إليها عيون مئات الملايين، وتسمو لموافاتها همم العباد والصلحاء، وكم تأثروا بمناظرها سواء عن قرب تدمع منه المآقي، أو عن بعد بتلفت القلب إليها، وفي جميع الأحوال فالأرواح بهذه البقاع والمشاعر متعلّقة، والأعناق لها مشرئبة، ونحن أهل لأن نكون خيرًا مما يظنون ويأملون، والله يتقبل منا وهو السميع العليم التواب الرحيم.
# كاتب سعودي
0