(مكة) – حوار عبدالرحمن الأحمدي
مع قرب نهاية رمضان تسعى “مكة” الإلكترونية ضمن سلسلة لقاءات الشهر الكريم، للوقوف على طرق الارتقاء بمستوى الطلاب ودعم المسيرة التعليمية في كافة مراحلها، ما كان لزاما معه الحصول على رأي الخبراء، أمثال الدكتور عمر بن عبدالله الهزازي الأستاذ بكلية العلوم بجامعة أم القرى، والعميد السابق لكلية العلوم الصحية وللكلية الجامعية، ورئيس قسم الكيمياء السابق، فكان معه هذا الحوار الهام، الذي كشف خلاله الكثير عن تجربته ومسيرته حتى وصول إلى أرقى المناصب التعليمية.
** لمن يسأل عنكم ضيفنا الكريم.. أين تتواجدون في رحاب هذه الدنيا؟ وكيف تقضون أوقاتكم؟
_أخوكم عمر بن عبدالله الهزازي أستاذ الكيمياء الفيزيائية بأم القرى، ورئيس القسم سابقاً، ووقتي يقضى بين التدريس والقراءة في مؤلفات الدنيا والدين، والتأليف ورعاية الأبناء، مع تقصيري الشديد في السنوات الأخيرة في الخلطة بالأصحاب؛ لبخلي بالوقت الذي أراه أثمن من اللقاءات المتكررة مع عظيم نفعها وأجرها، والذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن يعتزلهم ولا يصبر على أذاهم، ولكن عزلتي غالبها للعلم والعائلة وليست نفورا من الخلق، فإني أحب الناس ونفعهم، وأجد سعادتي تزداد بقضاء حوائجهم ورسم الابتسامة على وجوههم. ويكفيك دعاءهم الطيب.
** ما الذي يشغل اهتمامكم في الوقت الحاضر؟
_أعكف على تنقيح 8 مؤلفات سابقة لم تحظ بالنشر الورقي مع نشرها إلكترونياً قبل بضع سنوات، وأرجو أن ترى النور خلال عام 1445 إن شاء الله، علما بأن بعضها اعتمد كمرجع للتدريس في بعض الجامعات منذ 5 سنوات، اعتماداً على النسخة الإلكترونية، وأركز جاهداً على تربية الأبناء الصغار الذين انشغلت عنهم في أزمنة مضت بسبب العمل الإداري والبعد عن مكة، وعلى رأس التربية محافظتهم على الصلاة جماعة، وعلى حفظهم للقرآن الكريم الذي له عظيم الأثر في سلوك الأبناء، وخاصة في ظل تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، هذا غير الفائدة المرجوة من سعادتهم وسلامة نطقهم وتقوية ذاكرتهم وغيرها من المنافع العظيمة، ولذلك أنصح جميع الآباء بذلك.
** الحكمة خير من الله يؤتها من يشاء.. كيف تعرفون الحكمة من وجهة نظركم؟
الحكمة هي حسن الخلق والنهي عن كل قبيح تحتاج للاعتذار منه، ولن تجد صاحب حكمة إلا ذو هيبة ووقار وتجله النفوس وتطمئن لرأيه ومشاورته، ويكون غالباً مسدد الفعل صائب القول.
** ما بين حكمة الشيوخ وهمة الشباب أيهما أقرب برأيكم.. ثمة اتفاق أو فجوة اختلاف؟
_هما يكملان بعضهما فالحكمة بلا شباب متحمس منجز لن تؤتي ثمارها في إنجاز ملموس محسوس ينتفع به الناس، والشباب بلا تجارب وتوجيه من أصحاب الخبرة يضيع جهدهم سدى، وتهدر طاقاتهم، وعندما يوجد تكامل بينهما بأن ينقل الشيوخ حكمتهم وتجاربهم للشباب المتحمس وبأن يقبل الشباب على أهل الخبرة فينتفعون بتجاربهم ويبنون عليها سيكون التطوير والإنجاز السريع والمتقن، وينبغي أن يحرص أهل التجارب والمناصب على أن يهيأوا جيلا يخلفهم ويحمل الراية من بعدهم بتعليمهم وصقل مهاراتهم ونقل الخبرات إليهم وإبرازهم وتحميلهم المسؤولية، ومن أقبح الخصال أن يحارب الشباب المتحمس من قبل الشيوخ المخضرمين؛ خشية أن يبرزوا فيزيلوهم عن الأضواء أو عن المناصب، وهذا قصور في العقل، فما من صاحب منصب إلا وسيرحل طوعاً أو كرها.
** هل الإنسان في هذا العالم ضل طريق الحكمة؟ وهل بالجملة تنقصه الحكمة؟
_كل من أعرض عن الله ومال عن منهجه فإنه سيضل الطريق، وما من إنسان إلا ويحتاج للحكمة تعلما وأثرا، وكلما استفاد الإنسان من حكمة غيره زادت حكمته ورجح عقله وكان موفقاً في أقواله، مسدداً في أفعاله.
** في حياتنا مراحل إنسانية مختلفة من الضعف إلى القوة وهكذا.. ماذا تتذكرون من وقائع في ثنايا المراحل؟
_سأذكر قصة طريفة كان لها الأثر في تعلمي: أذكر أنني بالصف الرابع الابتدائي عام 1403ه بحي جرول (شعبة المغاربة) كنت أتردد على صديق مصري للوالد يعمل محاسبا في مؤسسة مجاورة لمتجر أبي؛ ليساعدني في حل بعض المسائل بالرياضيات، ثم أرجع لبيتي راجلا، وكنت أسعد بذلك لأن توبيخ الأستاذ لمن لم يحل كان عظيماً، وما كل الآباء في ذلك الزمان متعلمون كزماننا، فكانت هيبته -أعني الأستاذ – حاضرة في كل مسألة أجد مشقة في حلها، ولقد جئته ذات يوم ومعي بنت الجيران الشقراء التي أصرت على مصاحبتي، وظللت أنتظر تفرغه ساعات؛ بسبب أشغاله، ثم اعتذر وردني خائباً بل زادني غضباً حين قال: زوجني هذه الشقراء لأساعدك..!! وليتها ما جاءت معي، كانت خطواتي ثقيلة وأنا عائد لبيتي ودخلت الغرفة وجلست أنظر للمسألة زمناً طويلا، أقلبها وأتأملها، وأكتب كثيراً من الخطوات التي قادتني في كل مرة للحل الخطأ، وربما فعلت من المحاولات عدد تجارب أديسون لاختراع المصباح والتي بلغت ألفا، وكانت ليلة ثقيلة علي شعرت أن هموم الدنيا تجمعت على قلبي ولم اهتدِ للاستغفار أوصلاة ركعتين، أو أذكار تفريج الكربات، فلم تكن حاضرة في ذهني لصغر سني، وظننت أن أهل الأرض لو اجتمعت همومهم بهمي لفاق همي همهم، وعند ساعة متأخرة من الليل أهتديت للحل، ففرحت به أيما فرح، كانت الفرحة بحلها بنفسي بدون مساعدة أحد لا تعادلها فرحة، ومنذ ذلك اليوم لم أعتمد على أحد في فهمي للدروس إلا على الله وحده، ثم الانكباب الشديد، واستفدت درساً عظيماً، أنه بمقدار ما تتعب في تحصيل العلم فإنك تعشقه وتصبر على التعب فيه، وكلما عودت أبناءك على المساعدة في حل المسائل دون أن يكون لهم جهد سابق لها في الحل كلما ضعفت همتهم، وقل صبرهم، وكثر نفورهم من العلم، وهذا حال طلابنا اليوم للأسف، الذين صارت بعض المدارس تتسابق على رفع نسبة النجاح، وربما زودت طلابها بملخص للمقرر من صفحتين وثلاث أو بأسئلة مشابهة بحجة التدريب، ثم زاد الطين بلة في الضعف العلمي طريقة الاختبارات صواب وخطأ واختيار من متعدد فأصبح الطالب فقط يختار أو يضع الإشارة دون أن يفهم الأسئلة ولا يحللها ولا يفكر في إجاباتها، لذلك لم يعودوا يذاكرون مبكراً ولا يتهيبون من الاختبارات تهيبا يدفعهم للاستعداد الجيد، فكان الضعف الذي نشهده اليوم، ولن نحل مشكلة الاتهامات بالضعف العلمي بين التعليم العام والجامعات إلا بحسن اختيار الكفاءات ابتداءً من المدرس والمدير للمدرسة إلى ما علاهما من المناصب.
** ما بين الربح والخسارة أو الخسارة والربح كيف تصفون أصعب المشاعر وأجملها؟
_أصعب المشاعر هي فقدان من تحب بموت أو هجر، وأجملها أن يتحقق ماتحب بعد تعب طويل وصبر كبير.
** الحزن سمة إنسانية ثابتة.. هل احتجتم له يوما ما؟ وما هي أقسى لحظات الحزن التي مرت بكم؟
_أقسى اللحظات كانت وفاة والدي رحمه الله في العام 1424ه بعد معاناة طويلة مع تلف الرئة اسأل الله أن يرفع بما أصابه درجاته، ويكفر سيئاته، كان أبي رحمه الله في عافية من الله في سائر جسده قوي البنية كثير النشاط والحركة، حتى فقد القدرة على التنفس الطبيعي؛ بسبب تلف رئتيه قبل وفاته بثلاث سنوات، وكان أمرا مؤلما أن ترى ذلك الفارس النشط كثير الحركة أصبح طريح الفراش سنوات طويلة ولا يتحرك إلا بأنبوبة الأكسجين، وبدونها لا يستطيع أن يمشي خطوات، فما أضعف الإنسان.
حملناه ليلة إلى المشفى فقالوا ينوم، وزرناه فتحدث وكان بشوشا مبتسما، وودعناه، ولم يخطر ببالنا أنه الوداع الأخير لرجل مازال بعمر 61 أو 62، وعند منتصف الليل أبلغونا بأنه حمل للعناية المركزة وما هي إلا ساعات حتى فارق الحياة رحمه الله تعالى، كان حزني على فراقه شديداً؛ لأنه كان أبا رحيماً بكل معنى الكلمة، لا أذكر أنه يوماً رفع صوتا أو وبخ أوشتم أحدا، أو رفع سوطا وضرب أجسادنا، لقد كان الأب يذهب للمدرسة في زمن مضى ويقول لمديرها: لكم اللحم ولي العظم، وكان بعض المدرسين يضربون طلابهم ضربا مبرحا حتى أن بعضهم يكسر الخشبة العظيمة بأيدي وأرجل الطلاب حتى جاء المنع كلياً لأثر الضرب النفسي على الطلاب، وبمنعه كلياً زالت هيبة الأستاذ وتجرأ الطلاب وشق تأديبهم، وأنا مع الضرب بصورة مقننة ويكون للضرب أهدافا يراد تحقيقها ولو كان الضرب بالكلية مذموما لما وجدنا بعض العقوبات الشرعية فيها الجلد.
كما عانيت ألم الفراق عند ابتعاثي للخارج في العام 1991م، حيث سافرت وحيداً بلا صاحب ولا زوجة ولا ولد، فكان إقلاع الطائرة من جدة إلى لندن بمثابة إقلاع روحي من الأرض إلى السماء وغالب من سافر في ذلك الزمان مر بمثل هذا، ولكن ماخفف عني ذلك عندما وصلت لمطار هيثرو بلندن في صيف العام 1991م، وقيض الله لي شاباً كثير السفر لبريطانيا فساعدني كثيراً في المطار، ولا زلت أدعو له كلما تذكرت وقفته.
** التوفيق والسداد هبة من الله تعالى.. ما هي أكثر المواقف التي مرت بكم توفيقاً وسدادا؟
_عندما تخرجت من الجامعة في عام 1415ه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف والأول على الدفعة، كانت الأمنية ان أكون معيداً بالجامعة فلا زال ألم ترك الطب غصة بقلبي، ولكن للأسف كانت وظيفة معيد شحيحة جداً في ذلك الزمان، قدمت على التدريس بعد تخرجي وقبلت مدرسا بالطائف في محافظة العطيف التي تبعد عن الطائف 90 كيلو تقريباً، فاضطررت للسكن بالطائف وترك أهلي بمكة بحكم أنهم في سنتهم الأخيرة بالجامعة، وفي منتصف السنة نزلت وظائف معيد بالجامعة فكانت فرصة لم أشأ أن أفوتها، وقدمت ونافست وأجتزت الاختبارات التحريرية والمقابلة، وكان جمع من الدكاترة فرحين بتقديمي وداعمين له، وعلى رأسهم سعادة أ.د. عبدالله بن بنيه الأحمدي- رحمه الله- الذي بشرني بقبولي معيدا، فكان لبشراه أثرا في نفسي عظيماً، بقي بعد هذا إخلاء الطرف من وزارة التعليم فتمت مخاطبة الجامعة لها عن طريق إدارة التعليم بالطائف والتي بدورها رفعت للوزارة ثم جاءت الموافقة بإخلاء الطرف نهاية العام، ولم أعلم بذلك؛ لأن الموظف لم يشعرني..!! مع أن الخطاب جاء فيه بالنص: “ويشعر المذكور بذلك”ووضعها بالدرج إهمالا وعدم مبالاة، انقضت السنة وبدأت سنة أخرى وأنا أنتظر موافقة الوزارة فلما طال سافرت بنفسي إليهم بالرياض فكانت المفاجأة أن الموافقة أرسلت من 8 أشهر لإدارة التعليم..!، فعندما راجعت إدارة التعليم بالطائف وجدت تلك الموافقة وقيل لي قدم شكوى على الموظف فأبيت وقلت: قدر الله كله خير، ولما طلبت إخلاء الطرف بعدها اصطدمت بعقبتين: الأولى أن إدارة التعليم رفضت الإخلاء إلا بالبديل، أو بنهاية السنة من العام 1416ه ولا زلت بهم حتى وافقوا على الإخلاء بعد الفصل الأول ولكن الصدمة الأخرى كانت عندما راجعت الجامعة، فقال لي الموظف ساخراً عابساً: لقد تأخرت كثيراً ولا يمكن للوظيفة أن تحجز لك عاماً حتى تأتي بالإخلاء، فكانت صدمة وافقت هوى جدتي -رحمها الله- وبعض المثبطين من أصحابي التي وإياهم كانوا يقولون ويرددون: “ويش تبي” بالغربة والبعثة وقد أكرمك الله بوظيفة وزوجة وذرية، خرجت من عند الموظف منكسر الخاطر، ثقيل الخطى كتلك الخطوات التي نزلت بي لما كنت بالصف الرابع الابتدائي وعدت من عند ذلك الأستاذ منكسرا لما رفض مساعدتي في حل المسائل، وهممت بالتسليم لما قال ذلك الموظف، والخروج من مبنى الإدارة والبقاء مدرسا بعد أن فقدت الأمل حتى لقيني موظف آخر نصحني نصيحة غير الله بها مجرى القضية مع بساطتها وقال: راجع وكيل الجامعة د.سلطان بخاري- آنذاك – واشرح له المشكلة فهو متعاون فلقيته وعرضت عليه المشكلة وقال لي بحنو وإشفاق لما رأى قلقي وفزعي: أنظر يابني إذا الله كاتبها لك ستكون فراجعني بعد أسبوع، كانت كلماته بلسما وشفاء بقلبي، وبالفعل عدت إليه بعدها فبشرني بأن الوظيفة مازالت باقية، فقط عجل بإجراءات إخلاء الطرف فسجدت لله شكراً على توفيقه، ولا زلت أدعو لذلك الموظف الذي هداني، ولذلك الوكيل الذي أدخل السرور على قلبي، وهكذا المسؤول الناجح يحيي به الله الآمال، ويبذل الأسباب في نفع الخلق وتيسير أمورهم والتفريج عنهم، بخلاف الفاشلين من المسؤولين الذين يعقدون الأمور.
** بماذا نربط الحياة السعيدة من وجهة نظركم الشخصية؟
_بالقناعة بما قدره الله وقضاه والمسارعة لطاعة الله وتحقيق مراده من خلق الإنسان وهو عبادته، وبالجد والمثابرة ونفع الناس، وتحقيق الأهداف السامية.
** هل نستطيع أن نعتبر أن السعادة هي أسلوب حياة؟
_السعادة ليست فقط فيما يظهر على الوجه من البشاشة أو فيما يكون باليد من المادة أو فيما يكون بالقلب من مشاعر، أو فيما يكون في البدن من صحة، أو في مساعدة الآخرين وقضاء حوائجهم، بل السعادة هي خليط من كل ذلك، ومتى نقص أحد مكونات هذا الخليط نقصت السعادة بدرجات متفاوتة، وتبقى السعادة وتدوم بالرضاء والقناعة بما قدره الله من أرزاق عامة.
** متى يصل الإنسان إلى محطات النجاح؟
_النجاح بعد توفيق الله والدعاء يصله مبتغيه بالصبر والمثابرة والمحاولة مرات ومرات والاستعانة بأهل الخبرة، عندما طردت المدرسة (أديسون) بحجة أنه بليد غبي أحمق ساذج لا يصلح للعلم، وأن قدراته العقلية لا تؤهله للدراسة، عكفت أمه على تعليمه ولم تيأس، وضحت بوقتها وصحتها من أجله، حتى صار أعلم أهل زمانه، وأكثرهم اختراعات أفادت البشرية، ومن أعظم اختراعاته المصباح الذي جرب فيه ألف تجربة كلها فشلت إلا واحدة أضاءت البيوت والشوارع والمكاتب والمتاجر، لم ييأس من المحاولات ولم يستسلم للإخفاقات وكان يقول: كل تجربة فشلت فيها تعلمت منها طريق النجاح، وكتب في مذكراته فقال: لولا أمي وصبرها ما وصلت إلى ما وصلت إليه من النجاح، وهذه رسالة لكل أب وأم وطالب علم بضرورة التفاول والصبر والجد والاجتهاد.
** ومتى تتوقف تطلعاتنا في الحياة؟
_لا تتوقف إلا بعجزك أو موتك، بل حتى مع عجزك قد تنفع الناس بالذي تستطيعه، ويظل الإنسان بعطائه في شبابه أو مشيبه، في عمله أو بعد تقاعده، بل العطاء النافع لا يكون إلا بعد التقاعد حيث يحرص الإنسان على نفع الأخرين أكثر من أي وقت مضى، بخبرته وعقله ونصحه وتأليف الكتب التي تنفع الناس، ومن النماذج المشرقة لمن عجز جسدا ونفع الله به في الدعوة للخير وفي تحفيز الناس وفي تعليمهم الصبر الشيخ عبدالله بانعمة والذي ظل مشلولا عقوداً لا يتحرك منه إلا لسانه وعيناه، فلم يعجز ولم يستسلم بل ساهم في الدعوة إلى الله على كرسيه وكان أثره عظيماً على الشباب فرحمه الله رحمة واسعة.
** في الأغلب ننصف الإنسان بعد رحيله من دنيانا.. متى ينصف هذا الإنسان قبل أن يرحل؟
_الإنصاف يكون عند توفر المنصفين، ومتى غابوا وظهر غيرهم ممن لا يعرف قيمة الشخص أو يحسده أو يغار من نجاحاته فسيظل الناجح خفيا بل يسعى كارهوه لطمس فضله والتقليل من إنجازه، وربما وصموه بسوء ليس فيه، وعلى كل حال يكفي الناجح النافع للخلق آثاره الجميلة، ودعوات الصادقين له، ومنزلته عند ربه خير من كل ذلك.
** في الاستشارة.. من يستشير ضيفنا الكريم في مواقفه الحياتية المختلفة؟ ولماذا؟ وما هي أهم استشارة مضت؟
_أستشير في من أثق بعقله ونصحه وتجاربه من الأهل والأقارب والأصحاب، وتعرف الناصح الحق إذا اختلفت معه لم يجاملك، بل يسدي إليك النصح بأجمل صورة وأعذب لفظ ليؤثر فيك.
** متى غض النظر ضيفنا في المواقف المصاحبة له؟ وهل تذكرون بعض هذه المواقف؟
_أغض الطرف في المواقف التي أجد أن الانسياق وراءها يضيع الأوقات ويهدر الكرامة ويتجرأ معها السفهاء ويشغلك عن الإنجاز – وما أكثرها -، فإن صاحب المنصب خاصة له خصوم ومنافسون وحاسدون وحاقدون ومتحاملون ومتزلفون ومتصيدون وأصحاب مصالح كلهم يحرص على التسلق على ظهره، والحمد لله على العافية.
** هل ندمتم على سكوتكم يوماً؟ ومتى ندمتم على بعض كلامكم؟
_السكوت غالباً خير لصاحبه إلا في مواقف تقتضي الكلام من بيان الحق وإنصاف المظلوم والدفاع عن بريء، أما الكلام -بغير هذا – فحتما ندمت على كثير منه سواءً المنطوق أو المكتوب، لا سيما اذا كان حولك اشخاص متربصون للأسف، لذلك ينبغي للإنسان إذا تحدث أن ينظر مجلسه ومن به من الناس وألا يتبسط بالكلام في كل مجلس فإن من المجالس ما لا يصلح فيها إلا القول الصارم الجاد لتظل الهيبة محفوظة والخطأ محدود، ونصيحتي لكل مسؤول أن يعد كلماته ويحصي جمله، لا سيما المكتوبة عبر وسائل التواصل لكثرة نقلها وسوء فهمها، ويجعل بينه وبين من يلقاهم حدودا فلا يفزعهم بسوء لفظه ولا يتبسط معهم بالكلام، مما ينبغي كتمانه فيتجرأون ويسيئون، كذلك ينبغي للمسؤول ألا يجعل مجلسه مليئا بالمراجعين فربما كان كلامه لأحدهم خاصا، فيتلقفه أحد الجالسين ويسيء إليه به، فتنظيم الدخول على المسؤول أمرا محمودا بشرط ألا يضيع المسؤول وقت من ينتظرونه بحديثه مع مراجع أو صديق في أمور خارج العمل.
** في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة أحاديثنا تختلف عن واقعنا.. إلى أي مدى تؤيد صحة هذه الجملة؟
_رأيي أن البعض يتحدث في وسائل التواصل بمثالية تخالف واقعه، وعلينا أن ننظر للكلام وفائدته دون النظر للقائل وحاله، فننتفع بما فيه سواء طبقه باعثه أو لم يطبقه، والإنسان قد يستفيد حتى من عدوه، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم قول الشيطان لما علم أبا هريرة رضي الله عنه أن آية الكرسي عند النوم سبب للحفظ من الشيطان وقال: “صدقك وهو كذوب”، لذلك لا ينبغي أن نذم كل قول نافع بحجة أن قائله لا يمتثله.
وهذا نجده بتويتر والواتس وغيرها من وسائل التواصل، فتجد المواعظ والنصائح والتنبيهات من أشخاص قد لا يطبقونها، لكنها وجدت في أنفسهم أثرا فأرادوا نفع غيرهم، فلعل مبلغ أوعى من سامع، ولو أن الكلام والمواعظ والتوجيهات بوسائل التواصل لم تصدر إلا لمن طبقها؛ لتوقفت رسائل الخير والتذكير، ومع ذلك ينبغي للإنسان أن يعاهد نفسه فيطبق ما يرسله على نفسه إن استطاع قبل أن يرسله لغيره ليكون الأثر أعظم.
** في حياتنا اليومية هل افتقدنا حقيقة إلى الإنسان القدوة؟
_الإنسان القدوة عملة نادرة هذه الأيام، وينبغي للإنسان إن أراد تأثيرا نافعاً فيمن حوله أن يكون قدوة، وأذكر لما كنت عميداً للكلية الجامعية بالقنفذة وقبلها لكلية العلوم الصحية، كنت أحرص على الحضور المبكر عند 7.30 ص، وذلك كل يوم غالباً، ونادراً ما أتأخر حتى 8 أو 8.30 صباحا، وكنت أسبق حتى سكرتير المكتب ومدير الإدارة والطلاب، بل وأوقظ حارس الأمن إن أطبقت عيناه قهراً، بل أني افتح بوابات الكلية قبل شروق الشمس وأتفقد أرجاء الكلية وأجد متعة في هذا، وكان الجميع ملتزم ومنضبط بالحضور حتى رؤساء الأقسام كنت أؤكد عليهم ضرورة التواجد اليومي من 8 ص إلى نهاية الدوام، وكنت أزورهم بمكاتبهم وأعاتب من وجدت باب مكتبه مغلقا عند 8 أو 9 ص، خاصة إذا تخلف الرئيس وسكرتيره، وكنت أنزعج كثيراً حينما يأتيني مراجع ويقول: انتظرت المسؤول فلان ساعات طويلة ولم يأت وأنه جاء من مسافة 200 أو 300 كيلو، كنت أنزعج كثيراً لأي مسؤول معي يتأخر لأني أعلم أن تأخره ربما كلف الناس أوقاتاً ثمينة وأموالا عظيمة خاصة من سافر من مكان بعيد؛ لتوقيع أو ختم، وربما كان تأخر توقيع أحدهم سبباً في فوات خير عظيم على الطلاب والمراجعين، بل ربما فقد التقديم لوظيفة لتأخره في توقيع ورقة أو ختمها بما لا يأخذ ثوان بسبب تأخر المسؤول أو غيابه بلا تنسيق مع عميد الكلية أو مدير الإدارة، وكنت حين أعاتب أحدا ممن يعمل معي على تأخره أو غيابه بلا عذر أرى تقديراً منهم لعتابي لأن الذي يعاتبهم هو القدوة في حضوره وانضباطه، وأعظم قدوة لنا في كل شؤون حياتنا هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
** الأبناء في الوقت الحالي هل يحتاجون إلى الرأي والمشورة منا؟ وهل المسافات بعدت بيننا وبينهم؟
_الأبناء في مراحل عمرهم المختلفة بحاجة إلى النصح والتوجيه، إلا أن الانفتاح على العالم جعل الأبناء يأخذون الرأي والمشورة من جهات مختلفة، ففي السابق لم يكن أمام الابن إلا أباه وأمه وأقاربه ومعلمه، أما اليوم فهناك المستشارون والخبراء ووسائل التواصل وسهولة الوصول للمعلومة أو لحل المشكلات، كما أن أعظم مرحلة يحتاج الأبناء فيها لتوجيه الآباء هي ما قبل التمييز، فهي مرحلة تغرس فيها كل فضيلة، وتنفر من نفوسهم كل رذيلة، ويبقى هذا الغرس معهم في حياتهم الباقية.
** الدنيا طويت على غرور.. متى وجدتم هذه العبارة ماثلة أمامكم؟
_وجدتها في بعض أصحاب المناصب عندما يتركونها فتنتكس أحوالهم ويصابون بانطوائية وعزلة بعد أن تزول تلك الهالة للمنصب، ولقد اجتهدت في جميع المناصب التي أسندت إلي، فكنت أخبر من حولي بتاريخ المغادرة إذا انتهت فترتي بسلام ولم يعتريها إعفاء أو اعتذار مبكر، بل كنت أرفع للمسؤول قائمة بأسماء مرشحين يخلفونني من أبناء الكلية وأرفق معها سيرهم الذاتية، وأرى أن هذا خير عون للمسؤول لحسن الاختيار، وقد فعلت ذلك في كل مناصبي خدمة لزملائي ممن سيخلفونني.
** من أنبل الناس في رأيكم؟
_النبل في الناس واسع التعريف فـ: أنبل الناس من أحب لغيره ما يحب لنفسه، وكره لغيره الذي يكره لنفسه، وأنبل الناس من كان مصدر سعادة للناس وقضى حوائج الناس بماله أو جاهه او طيب كلامه، وأنبل الناس من جعل حياته ومماته لله طاعة وخوفا ورجاء ومراقبة.
** المحبطون هم أشد الناس تعاسة.. هل صادفتم هذه الفئة؟ وكيف تعاملتم معها؟
_المحبطون هم من لهم تجارب فاشلة في الحياة، وهؤلاء تراهم يخوفونك من كل مبادرة ويحذرونك من كل مغامرة، ويفسدون عليك آمالك بمجرد أن تطلعهم عليها، وليس أسلم للإنسان من أن يستعين على إنجاح حوائجه بالكتمان ويستشير أهل التفاؤل والنجاح فأولئك أصدق حديثا، وأنبل نفوسا، وأسعد بمد يد العون لمن بادر.، وما من إنسان يرقى إلا له مثبطون، لذلك أعظم الناس إضرارا بذي الهمة هم المحبطون الحانقون المتشائمون الحاقدون الحاسدون.
** هل ندمتم يوماً في النقاش مع أصحاب الوعي والإدراك؟ وهل ندمتم في النقاش مع غيرهم؟ ولماذا؟
_نقاش أصحاب الوعي والإدراك ينفع العقل ويزيده قوة ويكون فيه التوجيه والإرشاد لما غاب عن عقلك أو فهمك، بينما النقاش مع غيرهم عقيم ضار غير نافع، يشتت ذهنك، ويشغل قلبك، ولا ينالك منه إلا دنو الأخلاق وضياع الأوقات وتأخر الإنجاز.
** ما أسباب تدني مستوى الطلاب في الأزمنة الأخيرة وما نصيحتك لهم؟
الأسباب كثيرة وقد تتفاوت بين طالب وآخر، لكنها على وجه العموم تشترك في أن المرحلة الابتدائية لم تؤسس طلابها كما ينبغي، وكما أن الطفل تغرس فيه الفضائل من وقت مبكر بل حتى قبل السابعة، فإن المرحلة الابتدائية هي التي تغرس في الطالب حب العلم والإقبال عليه وتزوده بأدواته بأساليب حديثة تتوافق مع الزمان، فلم يعد تنفع أساليب الضرب والإهانة؛ لكي يجبر الطالب على العلم، ولم يعد لدى الطالب فراغ يشغل نفسه بالعلم، فالألعاب الإلكترونية أشغلتهم وصرفت أوقاتهم وأدمنوها حتى ينام أحدهم وهو يلعبها، فضرتهم جسدياً وخلقياً ونفسياً وعلمياً في ظل غياب مراقبة الآباء، لذلك معالجة هذه المشكلة من قبل الآباء هي الحل، بالموازنة المقبولة بين العلم واللعب، كذلك لا بد من تمكين القيادات ذات الكفاءة من المناصب، فمدير المدرسة هو رأسها، وعندما يكون الرأس قادراً على تسيير العملية التعليمية كما ينبغي، فإن الثمرة تكون عظيمة والجهود تكون مركزة، لذلك ينبغي أن يكون اختيار أي مدير وفق معايير صارمة، وبالمقابل حتى نشجع الكفاءات على قبول العمل الإداري لا بد من وجود حوافز مادية ومعنوية كبدلات مجزية تجعل المدير يعلم أنه مسؤول عن الإنجاز والإبداع والتطوير، ومثل هذا يقال في المناصب كلها في العملية التعليمية، والطلاب أحياناً يكونون ضحية لسياسات خاطئة أو غير مدروسة قدحت في رأس المسؤول فجأة ثم أمر بتطبيقها على الجميع وكان الأولى تجريبها زمناً على بضعة مؤسسات ثم استخلاص نتيجة التجربة فتعمم بعدها أو تلغى.
المرحلة الابتدائية مرحلة اليوم غدت للأسف مهملة، وأصبح بعض الطلاب يتخرجون من المرحلة الابتدائية وهم لا يعرفون الإملاء ولا القراءة ولا حتى قراءة السور القصيرة من القرآن، وكل هذه المخرجات تدق ناقوس الخطر، ويستمر مسلسل التبسيط للطلاب والتيسير الشديد الذي عودهم على الكسل في المراحل المتوسطة والثانوية بحجة مساعدتهم على القبول بالجامعات، بل إن بعض الجامعات اليوم وبعض إدارات التعليم توجه منسوبيها إلى أن الأسئلة تكون موضوعية غالباً: صواب وخطأ، واختيار من متعدد والتوصيل، فأصبح الطالب لا يذاكر ولا يهتم بالفهم ويأتي للقاعة ويخمن من رأسه، وغالباً ما يسألني الطلاب: “يا دكتور هل الأسئلة مقالية أو موضوعية؟” فإن قيل: موضوعية ذاكروا مذاكرة تصفح سريع.
** هل من كلمة أخيرة لضيفنا الفاضل؟
_الكلمة الأخيرة : “إذا منحك المولى عز وجل السعادة فانثر شيئاً من عبيرها على من هم حولك فلكل نعمة زكاة”، وأعلم “أن السعادة تزداد كلما أشركت آخرين معك فيها، فكل شيء بالعطاء ينقص، إلا السعادة كلما أشركت فيها آخرين تتسع وتزداد”، وبعض الناس يملأون قلوبنا سعادة وقد لا يشعرون بذلك لأنهم لا يطلعون على قلوبنا، وكم من كلمة صدرت منهم أصابت قلوبنا وشعرنا بوقعها واهتز لها كياننا وربما غيرت مجرى حياتنا، وأعلم أن الترفع عن السفهاء وهجرهم وعدم الانشغال بهم سبباً للسعادة، فما أشقى كثيراً من الخلق إلا تتبعهم لما يقال عنهم وانفعالهم لكل كلام لا يروق لهم، وصرفهم أوقاتاً ثمينة في الرد عليهم وربما التخلق بأخلاقهم في قبح الرد وسوء الظن والكيد والفجور في الخصومة.