– 1 –
كان مِنْ أعزِّ أمانِيَّ وأغلاها، أنْ أؤلِّفَ كِتابًا عن العَلَّامة الْجليل الدُّكتور عبد الوهَّاب إبراهيم أبو سليمان – رحمه الله – ومؤسَّسة العُلماء في مكَّة المكرَّمة.
دعاني إلى هذا الموضوع سِماتٌ ألفيتُها ظاهرةً في شخصيَّة العلَّامة الْجليل الذي أتمَّ دراسته العالية في بريطانية في الفقه وأصوله، لكنَّ اتِّصاله بالثَّقافة الغربيَّة لمْ يُلْغِ ثقافةً غائرةً في عقله ووجدانه، رُغم ما أصابَ الثَّقافةَ الإسلاميَّةَ مِنْ تحوُّلٍ في العصر الحديث، كان عبد الوهَّاب أبو سليمان تصويرًا بديعًا لذلك التَّحوُّل؛ فالشَّيخُ العلَّامةُ ابنٌ لنُظُمٍ تعليميَّةٍ حديثةٍ، بدأها بالمدرسة النِّظاميَّة، في التَّعليم العامّ، ثُمَّ الْجامِعة، فالدِّراسات العليا في لندن، ولا شكَّ أنَّ اتِّصالَه بالعصر وثقافته كان بعيدًا، بلْ إنَّنا نلمس عصريَّته في زِيِّه وهيئته، وفي تضلُّعه مِنَ الثَّقافة الْجديدة، لا يختلف، في ذلك، عنْ أجيالٍ عَرَفَتِ التَّحديثَ في غير ناحيةٍ مِنَ الْجزيرة العربيَّة، قبل عبد الوهَّاب وجِيله، حتَّى إذا شَبَّ عبد الوهَّاب تَطَلَّعَ هو وجيلُه إلى ثقافةٍ جديدةٍ ونمطٍ مِنَ التَّعليم العالي مُبايِنٍ لِمَا تلقَّاه أساتذته وأخذوا به، أوْ مَنْ هُمْ في مرتبة الأساتذة، ونستطيع أنْ نَسْلُكَ مع الشَّابِّ المكِّيِّ شُبَّانًا مِنْ مناطقَ مختلفةٍ وبيئاتٍ ثقافيَّةٍ كانتْ، حتَّى ذلك الوقت، أمينةً على تراث الآباء والأجداد، لكنَّها وُلِدَتْ في عهد الدَّولة الوطنيَّة الحديثة، وتألَّفَتْ مِنها طبقةٌ ستأخذ، بعد حين، في الدَّعوة إلى النَّهضة والتَّحديث.
– 2 –
كان عبد الوهَّاب أبو سليمان مِنْ ذلك الْجيل، وتستطيع أنْ تَضَعَه في طبقتِه الْجديدة مِنْ أولئك الشُّبَّان السُّعُوديِّين الذين اتَّصلوا بالتَّعليم الحديث، فلمَّا أتمُّوا دراساتهم العالية في جامِعات الغرب، وعادوا إلى بلادهم = تألَّفَ مِنهم الْجيلُ الأوَّلُ مِنْ أساتذة الْجامِعة مِنَ السُّعُوديِّين، وحسْبُنا أنْ نذكرَ مِنْ أعلامه رضا محمَّد سعيد عبيد، ومنصور الحازميّ، ومحمَّد الشَّامخ، وأحمد الضُّبيب، وعبد الرَّحمن الطَّيِّب الأنصاريّ، وخالد البَدَلِيّ، ومحمَّد عبده يمانيّ، وعبد العزيز خوجه، وعبَّاس صالح طاشكنديّ، ومحمَّد إبراهيم أحمد عليّ؛ صديقَ عبد الوهَّاب ونَديدَه. جَمَعَتْهم كُلَّهم، على اختلاف ما بينهم، سِماتٌ واحدة، وخصائصُ مشترَكة، أظهرُها رغبةٌ جامِحةٌ في النَّهضةِ والتَّحديث، وبَثِّ التَّعليم الْجديد في مُواطنيهم، والأخذِ بثقافةٍ تَجْمَع التُراثَ والمُعاصَرةَ في إهابٍ واحدٍ، مع اعتزازٍ حادٍّ بالقديم الذي رأوْا فيه معنًى مِنْ معاني الأصالة والهُوِيَّة.
– 3 –
كان عبد الوهَّاب أبو سليمان واحدًا مِنْ ذلك الْجيل، في السِّنِّ، والطَّبقة، والتَّعليم، والأمانيّ، لكنَّه امتاز مِنهم بخصيصةٍ هي ألصقُ ببيئته المكِّيَّة التي عَرَفَتِ الحداثةَ والنَّهضةَ قبل بيئاتِ البلاد السُّعُوديَّة كُلِّها، بلْ إنَّه مَرَّ بها جِيلٌ جديدٌ أقبلَ على الثَّقافة الْجديدة، ودعا إليها، واطَّرَحَ الثَّقافة القديمة وثارَ بها، وحسبُنا أنْ نُطالِعَ كُتُبَ (أدب الحجاز)، و(المَعْرِض)، و(خواطر مُصَرَّحة) – ١٣٤٤-١٣٤٥هـ= ١٩٢٦م – لِنَعْرَفَ مِقدارَ التَّحَوُّل الذي أصابَ الثَّقافة في مكَّة المكرَّمة.
لكنَّ في عبد الوهَّاب أبي سليمان – شيئًا يمتازُ به مِنْ جِيله، شيئًا تَحَدَّرَ إليه مِنْ مكيَّته، ومِنْ تخصُّصه في الفقه والشَّريعة. كأنَّما اختاره القَدَرُ وصَنَعَه على عينه، فكان عبد الوهَّاب الإنسان، ومكَّة المكان، والفقه والشَّريعة، وصِيغَ عقلُه ووجدانُه على هَدْيٍ مِنْ كُلِّ أولئك، وعساه لوِ اتَّجه مُتَّجهًا آخَرَ واختارَ عِلمًا مِنَ العُلُوم الحديثة = لَفاتَنا شيءٌ جليلٌ لا يستطاعُ تعويضُه.
– 4 –
ولا يُداخِلُني شكٌّ في أنَّ عبد الوهَّاب أبا سليمان – ويُشارِكُه في ذلك صديقُه محمَّد إبراهيم أحمد عليّ – امتازَ مِنْ دُون جِيله كُلِّه، بكونِهِ آخِرَ عُلماء البلد الحرام. هو آخِرُهم؛ متى وَصَلْناه بتقاليد المدرسة العِلْميَّة في مكَّة المكرَّمة في الرِّواية والتَّلقِّي، وهو آخِرُهم؛ لأنَّه خُتِمَتْ به تلك التَّقاليد، وكان العَلَّامةُ الْجليلُ يَعْرِفُ ذلك، ويَحُولُ تواضُعُه دُون الْجَهْر به، ونستطيع، كذلك، أنْ نرى في تأخُّره في الزَّمان مَزِيَّةً، يُخَيَّلُ إليَّ، اليومَ، أنَّه أدركَها، لَمَّا أَحَسَّ أثرَ التَّغيير في نَفْسِه؛ فهو أستاذٌ في الْجامِعة، وكان أسلافُه الأَدْنَوْن مِنْ مَشايخه، شُيُوخًا ومُدرِّسِين في الحرم المكِّيّ، ولمْ يَخْفَ عليه الفَرْقُ بين حُجْرة الدَّرْس في الْجامِعة، وحَلَقات العِلْم في الحَصَيَات، على أنَّ آخِرَ العُلماء ذلك الذي أُجِيزَ في الفقه وأُصُوله مِنْ بريطانية، ويسبق اسمَه لقبُ “دكتور” = إنَّما هو هِبَةٌ مِنْ هِبَات حَلَقات العِلْم ومَجالِسه في المسجد الحرام. وعلى اعتزازه بإجازته العالية مِنَ الغرب، كان يَرْجِع تكوينَه إلى دُرُوس أولئك الأشياخ، وبخاصَّةٍ شيخُه ومُعَلِّمُه الفقيهُ الأُصوليُّ حسن مَشَّاط، أمَّا أهليَّتُه للتَّدريس فلمْ تُنْسِهِ شهادةُ الدُّكتوراه التي فَوَّضَتْه التَّدريسَ في الْجامِعة إجازاتِ شُيُوخه في الحَرَم الشَّريف، وما كانتِ الْجامِعة، مهما أعطتْه، لِتَحُلَّ مَحَلَّ ذلك اللَّون القديم مِنَ الدِّراسة. أَلَمْ يَقُلْ عبد الوهَّاب: إنَّ الحَرَمَ المكِّيَّ جامِعةٌ قبل أنْ تُعْرَف الْجامِعات؟ إنَّ هذا اللَّونَ القديمَ مِنَ الدُّرُوس، أوْ لِنَقُلْ: هذه الْجامِعة القديمة هي السِّمَةُ التي تُمَيِّزُ ابنَ جامِعة في إنگلترا مِنْ أقرانه وأنداده، وهي المَزِيَّة التي رَفَعَتْ نَسَبَه العِلْمِيَّ إلى شَجَرة العِلْم في البلد الحرام، بلْ في دُنيا الإسلام الواسعة.
– 5 –
ولستُ أشكُّ، كذلك، أنَّ عبدَ الوهَّاب أبا سليمان بينما عَرَفَ امتيازَه بارتفاعه إلى شُيُوخ العِلْم في المسجد الحرام = عَرَفَ، كذلك، تَبِعَةَ ذلك الامتياز. ولنا أنْ نتصوَّرَ ما سيكون عليه وارِثُ أولئك الأشياخ وخِرِّيجُ لندن، لا فَرْقَ هُنا أوْ هناك! أقربُ الظَّنِّ أنْ سيكونُ أستاذًا يُدَرِّسُ طُلَّابَه في الْجامِعة الفقهَ وأُصُوله، لا يختلف في دُرُوسه عنْ سِوَاه مِنَ الأساتذة، إلَّا بما تُمْلِيه الموهبةُ، والألمعيَّةُ، والتَّمَكُّنُ مِنَ العِلْم، وليس ببعيدٍ أن يَبْهَتَ، مع مَرِّ السِّنين، أثرُ الدُّرُوس المسجديَّة القديمة، والإجازاتُ، والأسانيدُ، وكُلُّ ما اتَّصَلَ بذلك اللَّون القديم مِنَ الدَّرْس الذي تَلَقَّاه في المسجد الحرام، وأولئك الأشياخ الموصولين بسلسلةٍ تضربُ في الزَّمان، شَهِدَتْ على سَهْمِها في الدَّرْس والرِّواية والتَّلقِّي قُرُونٌ مَضَيْنَ، وأروقةٌ، وحَصَيَات.
كُلُّ ذلك كان ممكنًا لولا تلك التَّبِعةُ التي ألقاها عبدُ الوهَّاب على نَفْسه. نَعَمْ هو متميِّزٌ مِنْ أقرانه بغِشْيانِهِ حَلَقات العِلْم في المسجد الحرام، وبمُشَافَهَتِه الشُّيُوخ، لكنَّ وراء امتيازه تكاليفَ لا يؤدِّيهِنَّ حَقَّ الأداء إلَّا هو. إذنْ فَلْيَكُنْ آخِرَ العُلماء، ولْيَكُنْ، كذلك، الأمينَ على تُراث أولئك الأشياخ، مهما كَلَّفَتْه تلك الأمانةُ تَبِعاتٍ، ومهما أثْقَلَتْه! وكأنَّما أدرك أثرَ الزَّمان في نَفْسِه، فإذا هو، كما مَرَّ بنا، يُدَرِّس الفقهَ وأصولَه في الْجامِعة لا المسجد الحرام، وما كان يَصْلُحُ لزمانٍ ليس شرطًا أن يصلحَ لزمانٍ آخَر. إذنْ، فلْيَتَحَوَّلِ الفقيهُ الأُصوليُّ إلى صَنْعةٍ أخرى! لِيَكُنْ مؤرِّخَ الثَّقافة والعِلْم في البلد الحرام!
– 6 –
لمْ يَستبدِلْ عبدُ الوهَّاب أبو سليمان بعِمامةِ الفقيه عِمامةَ المؤرِّخ – والباء تدخلُ على المتروك – فلا يزال للفقه سُلْطانٌ عليه، لكنَّه، لَمَّا تَأَمَّلَ تاريخَ العِلْم في المسجد الحرام، ولَمَّا وَقَفَ على كُتُب الأشياخ، مَنْ أدركَهُمْ ومَنْ لَّمْ يُدْرِكْهم = هداه تأمُّلُه ووُقُوفُه إلى أنَّ حَلَقات الدُّرُوس التي تُطِيفُ بالبيت العتيق هي، في الأعَمِّ والأغلب، حَلَقاتُ فقهٍ وتفسيرٍ وقراءةٍ وتِلاوة = وأنَّ الفقه كان صَنْعة أولئك الأشياخ، على أنَّ العالِمَ في مكَّة المكرَّمة، وفي كُلِّ دِيار المسلمين، كان فقيهًا، ومُفَسِّرًا، ومتكلِّمًا، وقارئًا، وكان، كذلك، أديبًا، وبلاغيًّا، ونَحْوِيًّا، وأنَّ مَدارَ تلك الدُّرُوس، مهما تَبَايَنَتْ، هو المسجد الحرام.
ويستجلِبُ الانتباهَ اختصاصُ عبد الوهَّاب بالفقه دُون غيره مِنْ العُلُوم الشَّرعيَّة. صحيحٌ أنَّه ضَرَبَ بسَهْمٍ في عِلْم الحديث، وتَضَلَّعَ مِنْ عِلْم التَّفسير، وأصابَ قَدْرًا صالحًا مِنَ العقائد والمنطق والنَّحْو والصَّرف والبلاغة والعَرُوض = لكنَّه أرادَ أن يكون فقيهًا أُصُوليًّا، حتَّى إذا تَكَلَّفَ التَّأريخَ لحركة العِلْم والثَّقافة في المسجد الحرام خاصَّةً = كان الفقهُ سبيلَه إلى تَعَرُّف بيئات العِلْم في مكَّة المكرَّمة، وكان الفُقَهاءُ حَمَلَةَ العُلُوم الإسلاميَّة كُلِّها.
وتفسير ذلك سهلٌ يسيرٌ متى عَرَفْنا أنَّ الفقهَ مَجْلَى العبقريَّة الإسلاميَّة. على أنَّ هناك أمرًا آخَرَ أُقَدِّرُ أنَّه أصلُ تلك العناية؛ فالمدرسةُ في تاريخ المسلمين – هذه المؤسَّسة التَّعليميَّة – كان الفقهُ أصلَ نشأتها، فإذا عَرَفْنا أنَّ عبد الوهَّاب أبا سليمان له صِلَةٌ قديمةٌ بكِتاب (نشأة الكُلِّيَّات؛ معاهد العِلْم عند المسلمين وفي الغرب) للعلَّامة جورج مقدسيّ = استبان لنا مقامُ الفقه لديه؛ فهذا الْكِتابُ، هو، بوجهٍ مِنَ الوُجُوه، كِتابٌ عنْ مؤسَّسة الفقه عند المسلمين، فدُورُ العِلْم ومدارسُه ومعاهِدُه ليستْ إلَّا هِبَةً مِنْ هِبَات الفقه ومذاهبه في تاريخنا.
– 7 –
كانتْ حَلَقات العِلْم في المسجد الحرام تَغُور في عقل عبد الوهَّاب أبي سليمان، وتُلْهِبُ مشاعرَه، وتُذْكي وِجدانَه. أَلَمْ أَقُلْ مِنْ قَبْلُ: إنَّ التَّبِعةَ ثقيلةٌ، وإنَّ التَّكاليفَ شاقَّةٌ؟! ويُخَيَّلُ إليَّ أنَّه كان مُشَتَّتَ العقلِ مُوَزَّعَه، ولستُ أَشُكُّ في أنَّ الفتى المَكِّيَّ فالشَّابَّ فالشَّيخَ كان يَشِيمُ بَصَرَه، في المدرسة النِّظاميَّة، وفي الكُلِّيَّة في مكَّة المكرَّمة، وفي جامِعة لندن، ثُمَّ في حُجْرة الدَّرْس مع طُلَّابه في جامِعة أُمِّ القرى = إلى ماضٍ له في حَلَقات العِلْم ومَجالسه في المسجد الحرام، وأحسبُه تَسَلَّطَ عليه الهَمُّ، قبلَ أن يَشْرَع في تقييد ماضي الثَّقافة في البلد الحرام؛ لأنَّه ذاقَ وعَرَفَ، ولأنَّه شَهِدَ الفصلَ الأخيرَ مِنْ أنماط العِلْم المسجديّ وتقاليده، ولأنَّه وارِثُ تلك التَّقاليد!
– 8 –
وعلينا أنْ نستعيد معًا موضعَ المسجد الحرام مِنَ البلدة المُبارَكة. كان الأصلَ الذي يَؤُولُ إليه كُلُّ شيء في حياة المكِّيِّين؛ فمَحَلَّاتُ مكَّة المكرَّمة وحارَاتُها، وأسواقُها، ودُورُ العِلْم فيها، ودواوينُ الدَّولة = كُلُّ أولئك يُطِيف بالبيت العتيق، وأينما رَمَيْتَ بصرك، في المدينة العتيقة، فثَمَّ المسجدُ الحرام. ومَعَاشُ المكِّيِّين وألوانُ حياتهم لها عُلْقَةٌ به. أمَّا العِلْمُ، وأمَّا حَلَقات الدُّرُوس فنَفَحَةٌ مِنْ نَفَحاتِه الزَّكيَّة.
والمكِّيُّ، في عُهُود مكَّة القديمة، وفي العهد الذي نشأَ فيه عبد الوهَّاب أبو سليمان = كان لا يزال للحرم الشَّريف أثرٌ في تنشئته وتكوينه؛ لكنَّ للزَّمان سُلْطانًا على كُلِّ شيء، وقُدِّرَ لعبد الوهَّاب أن يرى أثرَه في نَفْسه؛ التقَى فيه القديمُ والْجديدُ معًا؛ حَلْقة الشَّيخ في المسجد الحرام، ودَرْس الأستاذ في الْجامِعة، وتنازَعَتْه نَفْسان؛ تَشُدُّهُ الأُولى إلى ماضيه في دُرُوس الأشياخ، وتَشُدُّه الأخرى إلى الْجامِعة ودُرُوسها وتقاليدها الحديثة، وأدرك، كذلك، أمرًا ذا بالٍ عساه لمْ يُتَحْ إلَّا لصفوةٍ مختارةٍ مِنْ طلبة العِلْم = أنَّ حَلَقات الأشياخ في حَصَيَاتِ الحَرَم، والأسانيدَ، والإجازاتِ = كانتْ تَصِلُه بشجرة العِلْم في الإسلام، وما هكذا التَّعليمُ الحديث، وما هكذا الْجامِعة، وبِوُسْعِنا أنْ نَرُدَّ ما احتازَه مِنْ عِلْم الفقه وأصوله، إلى حَلَقات أولئك الأشياخ، قبلْ أن يختلف إلى الْجامِعة، وقبل أن يُتِمَّ دراسته العالية في لندن، فكان، بهذا المعنى، آخِرَ الفُقَهاء المكِّيِّين وآخِرَ شُهُود الدِّراسة المسجديَّة.
– 9 –
عَرَفَ عبد الوهَّاب أبو سليمان أنَّ شمس الدِّراسة المسجديَّة، التي كان هو آخِرَ شُهُودها، آذَنَتْ بالغُرُوب، وكأنَّما أرادَ له القَدَرُ أن يسترِدَّ ما يستطيع استرداده مِنْها؛ بتقييد تاريخها، وأَخْذِه مِنْ أفواه الرِّجال. والْحَقُّ أنَّ يَدَ الزَّمان التي مَسَّتْ كُلَّ شيءٍ بالتَّغيير، أَحَسَّ قساوتَها، مِنْ قَبْلُ، نفرٌ مِنَ المثقَّفين المسجديِّين، قبل أن يأتيَ عليها النِّسيانُ بجَبَرُوته، ونستطيع أنْ نَعتدَّ الكُتُبَ التي وَضَعَها عُمَر عبد الجبَّار، وعبد الله الغازي الهنديّ، والفُصُولَ التي أذاعَها في الصِّحافة أحمد الغزَّاويّ وثُلَّةٌ مِنْ أبناء ذلك العصر = لونًا مِنْ ألوان الاسترداد.
أَلْفَى عبدُ الوهَّاب كُلَّ ذلك بين يديه؛ الكُتُبَ المُصَنَّفةَ، والفُصُولَ المبثوثةَ في الصُّحُف والمجلَّات، واتَّصَلَ بالبقيَّة القليلة الباقية مِنْ شُيُوخ العصر، وأعانَتْه ذاكرتُه على ما نواه، وحينئذٍ أدرك شيئًا مستخفيًا في تراجِم أهل العِلْم، وجَعَلَ يستبينُ له، شيئًا فشيئًا، كُلَّما عاوَدَ البحثَ والتَّنقيبَ والتَّفتيش = أنَّ حَلَقات العِلْم في المسجد الحرام، تلك التي اتَّصَلَتْ منذ صدر الإسلام، واستمرَّتْ قَوِيَّةً فَتِيَّةً، طوالَ قُرُون مضين = لمْ تَكُنْ ساذجةً، مهما ظَنَنَّا ذلك، وأنَّ خَلْفَ تلك الحَلَقات نِظامًا مُحْكَمًا، نلقاه أنَّى اتَّجهْنا في بلاد المسلمين، دعاه المستشرق الهولنديّ سنوك هرخرونيه جامِعةَ الحرم المكِّيّ، لمَّا أَمَّ مكَّة المكرَّمة عند اكتهال القرن الثَّالثَ عَشَرَ الهجريّ (التَّاسعَ عَشَرَ الميلاديّ)، وسَمَّاه جورج مقدسيّ نِظامًا جامِعيًّا عَرَفَه المسلمون، قبل أن يعرفَه الغرب، وها هو ذا عبد الوهَّاب أبو سليمان يقرِّرُ أنَّ المسجدَ الحرامَ لمْ يَكُنْ “جامِعًا” للمُصَلِّين، وحَسْبُ، ولكنَّه كان، كذلك، “جامِعةً” لطُلَّاب العِلْم والدَّارسين. قال ذلك، أوَّلًا، في محاضرةٍ، طُبِعَتْ، ثُمَّ عاد إلى تلك المحاضرة فبَسَطَ فيها وفَصَّلَ، فكان كتابُه الواسِعُ المُحِيطُ (المسجد الحرام؛ الْجامِع – الْجامِعة: الفقه والفُقَهاء في مكَّة المكرَّمة في القرن الرَّابِعَ عَشَرَ الهجريّ) – 1435هـ = 2014م – شاهدًا على حَرَاكٍ عِلْمِيٍّ عظيمٍ، يُصَوِّرُ مقام المسجد الحرام؛ الْجامِع والْجامِعة.
– 10 –
وما كان خافِيًا على الفقيه المكِّيّ موضعُ المسجد الحرام في حياة المكِّيِّين، نَعَمْ هو الْجامِع والْجامِعة، وما مِنْ عَمَلٍ يؤدُّونه، مِنْ أعمال اليوم واللَّيلة، إلَّا كان له بالحرم الشَّريف سببٌ ونَسَب، أمَّا الثَّقافةُ والعِلْمُ والأدبُ فموصولة العُرَى به، تؤيِّدُ ذلك تراجِمُ العُلماء على اختلاف بُلدانهم، ومعاجمُ الشُّيُوخ والفهارسُ والبرامجُ والأثباتُ والمَشْيَخاتُ، وكُتُبُ التَّاريخ، والرِّحلاتُ؛ فمكَّة المكرَّمة هِبَةُ الحَجِّ، وهي، كذلك، هِبَةُ البيت العتيق. وعندئذٍ نَدَبَ عبدُ الوهَّاب أبو سليمان نَفْسه لتأريخ الثَّقافة وحركة العِلْم التي رعاها الحَرَمُ الشَّريفُ، ما دامَ الأمينَ على ذلك التُّراث، وما دامَ آخِرَ المسجديِّين وخاتمتَهم، وغايتُهُ تصويرُ الثَّقافة العالِمة في العُصُور المتأخِّرة، وفي العصر الذي أدركه في صِباه وفُتُوَّته وأوَّل شبابه، وأدَّى إلى بلدتِه المبارَكة، وإلى الثَّقافة الإسلاميَّة ما لمْ يُؤَدِّهِ غيرُه مِنْ أقرانِه وأندادِه، ودَلَّتْنا موضوعاتُ كُتُبه على استيعابه لصُوَر الثَّقافة العالِمة كافَّةً، وحَسْبُنا أنْ نَذْكُرَ مِنها: الكُتْبيِّين ومكتبات باب السَّلام، والورَّاقين، والأماكنَ المأثورةَ، والإجازات والأسانيد، وَجَدَّ هو وصديقُ عُمْرِه ورفيقُ دربه الدُّكتور محمَّد إبراهيم أحمد عليّ في نَشْر طرائفَ مِنْ تُراث عُلَماء المسجد الحرام في العصر الحاضر، في الفقه، على اختلاف مذاهبِه، والمَشْيخات، وكُتُب التَّراجم، وشارك صَفْوةً مِنْ مثقَّفي مكَّة المكرَّمة في فهرسة مخطوطات مكتبة المولد النَّبويّ الشَّريف ومطبوعاتها، وهداه موقع البيت العتيق إلى لونٍ طريفٍ مِنَ التَّأليف يَجْمَع الفقهَ والتَّاريخَ والاجتماعَ في قِرَانٍ واحد، وصَوَّرَتْ ذلك مؤلَّفاتُه عن المسعَى والسُّوق، ومَقام إبراهيم عليه السَّلام، أمَّا مُصَنَّفاتُه في الفقه وأصوله فذلك حديثٌ آخَر.
– 11 –
وافَى عبدَ الوهَّاب أبا سليمان الأجَلُ والتحقَ بالرَّفيق الأعلى في فَجْر اليومِ السَّادس والعشرين مِنْ شهر رمضان المبارك، مِنْ سنة أربعٍ وأربعين وأربعمئة وألف مِنَ الهجرة النَّبويَّة الشَّريفة، وكان آخِرَ المسجديِّين، والشَّاهِدَ على ضَرْبٍ مِنَ العِلْم الإسلاميّ نَشَأَ ونَمَا في أروقة البيت العتيق، وبه اختُتِمَتْ حياةٌ عِلْميَّة قديمة وشُرِعَ في حياةٍ جديدة. التقَى فيه الْجامِعُ والْجامِعة، والقديمُ والحديثُ، فكان آخِرَ المسجديِّين وأوَّلَ الأساتذةِ الْجامِعيِّين مِنَ الفُقَهاء المكِّيِّين، واجتمَعَتْ فيه دُرُوسُ أشياخه في حَصَيَات الحَرَم الشَّريف، ومُحاضراتُ أساتذته في جامِعة لندن، ولاءَمَ تلميذُ الحَصْوَة بين الفقه والقانون، وبين مجلس العِلْم والتَّلَقِّي والرِّواية في المسجد، وحُجْرة الدَّرْس في الْجامِعة، وبين التُّراث والمُعاصَرة، وبين الفقيه والمثقَّف.
2