– المسابقات تريد فرض وصاية على الشعراء.. والملتقيات تحكمها العلاقات وليست الكفاءات
– السعادة من أوهام النفس الإنسانية.. والإعلام يعزز ثقافة الاستهلاك
(مكة)- حوار-عبدالرحمن الأحمدي
دائما ما تكون الشخصيات العامة محل اهتمام ومتابعة من القراء، الذين يتطلعون لمعرفة نتاج خبراتهم ومسيرتهم على مدار العقود الماضية، ويعتبر الدكتور صالح بن سعيد الزهراني الشاعر والأكاديمي بجامعة أم القرى، أحد الشخصيات التي تحظى بسيرة ومسيرة مميزة، لذا حرصت “مكة” الإلكترونية على رصد أخباره ونتاج تجربته ومشواره في الحوار التالي:
** لمن يسأل عنكم ضيفنا الكريم.. أين أنتم في رحاب هذه الدنيا؟ وكيف تقضون أوقاتكم؟
_يقول المعري: وهل يأبق الإنسان من ملك ربه، فيهربَ من أرضٍ له وسماءِ، مقيم في أقدس بقعة على هذه الأرض مكة المكرمة، في سفح جبل ثور، الذي اعتدت كل صباح أن ألقي عليه التحية، مبتهجاً كلما رأيته شامخاً، حانياً، وقد تناثرت البيوت على سفحه كما يتناثر الأحفاد حول جدّهم الحنون، باحثين عن نور الحكمة، وجلال المعنى.
وأعمل أستاذاً للدراسات العليا في قسم البلاغة والنقد بجامعة أم القرى، والتزاماتي الأكاديمية تأخذ أغلب وقتي، في التدريس والإشراف العلمي، وتحكيم البحوث والبرامج العلمية، وترقية أعضاء هيئة التدريس في جامعات سعودية وعربية، ومناقشات الأطروحات العلمية، وتقديم الاستشارات، والعمل على إنجاز بعض الدراسات العلمية التي آمل أن ترى النور قريبا، وما تبقى لي من وقت أشغل أغلبه في القراءة التي تمثل لي رئة تمدني بأكسجين الحياة، فأنا لا أتصور الحياة بلا قراءة.
** ما الذي يشغل اهتمامكم في الوقت الحاضر؟
_في الوقت الحاضر، عاكف على قراءة بعض المشاريع العلمية لبعض المفكرين العرب الكبار، ومستغرق في قراءة عدد من الدراسات التي تعنى بعمل الدماغ، وتكشف عن طريقة عمله في الإدراك، فنحن في عصر الدماغ اليوم كما يقال، فمن كان يملك التوابل في القرن التاسع عشر ملك العالم، ومن كان يملك النفط في القرن العشرين ملك العالم، ومن يملك المعلومة في القرن الواحد والعشرين فسيملك العالم، واليوم نحن في عصر الذكاء الاصطناعي الذي سيغير وجه العالم، ومواكبتنا لهذه التحولات الكبرى ستحدد موقعنا على الخارطة، كما أنني مهتم بإنجاز عدد من الدراسات العلمية، في مجال تخصصي، استكمالاً لأعمال سابقة لم تستكمل.
** الحكمة خير من الله يؤتها من يشاء.. كيف تعرفون الحكمة من وجهة نظركم؟
_الحكمة ليست شارة توضع على الجبين، ولكنها إنجازٌ تخلده السنين، لهذا قال ابن دريد: كل كلمة وعظتك وزجرتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح، فهي حكمة، فالحكمة شعورٌ غامرٌ، وقلبٌ عامر، والحكمة معرفة تحولت إلى سلوك يحكم كل تصرفاتك، وحين تتمكن المعرفة من ضبط أقوال الإنسان وأفعاله، فهذه الحكمة، وخذ جميع الفضائل ومحاسن الأخلاق تجدها من قبس الحكمة، هذا السلوك هو الذي يزيد الشريف شرفا، ويجلس المملوك في مجالس الملوك كما ورد عن مالك بن دينار.
** ما بين حكمة الشيوخ وهمة الشباب أيهما أقرب برأيكم.. ثمة اتفاق أو فجوة اختلاف؟
_الحياة لا تبنى بالمثاليات، الحياة تبنى بالاقتراب من الواقع المعاش، وهنا تأتي حكمة الشيوخ الذين صقلتهم التجارب، ونزلوا من المثال إلى الواقع، والحياة مدرسة مفتوحة، الإنسان في سيره فيها يكتشف كل يوم شيئا جديدا، ويصحح تصورات، ويغير مواقف، والشباب في الغالب لديهم عنفوان، وتصورات مثالية لم تختبر كفايتها بالاشتباك مع الواقع، ولذلك حين يجتمع حماس الشباب وحكمة الشيوخ تتعادل كفتا الميزان، ويتحقق التوازن، والنوايا الطيبة تحتاج إلى منهجية حكيمة فيها تقدير للمآلات، وإدراك للطبيعة البشرية، ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، وما أعظم وعي لقمان بهذه الحياة عندما قال: إن من الكلام ما هو أشد من الحجر، وأنفذ من وخز الإبر، وأمر من الصبر، وأحر من الجمر، وإن من القلوب مزارع، فازرع فيها الكلمة الطيبة، فإن لم تنبت كلها ينبت بعضها.
** هل الإنسان في هذا العالم ضل طريق الحكمة؟ وهل بالجملة تنقصه الحكمة؟
_الحياة كخذروف الوليد لا وجود لها إلا مع الحركة، والإنسان كائن تلقائي، يبرمج ثقافياً على حب البقاء، والرغبة في التملك، والاستحواذ، وعلى هذا ينشأ، فتكون أقواله وأفعاله وقيمه وفق هذه البرمجة، وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوّده أبوه، وإنما نزلت الكتب السماوية، وأرسل الرسل، وسنّت القوانين، ونشأت الدول، لترويض هذا الوحش الكامن في داخل الإنسان، ولو ترك الإنسان لتلقائيته وأهوائه لأهلك الحرث والنسل وأكثر في الأرض الفساد، ولكن الخوف من العقاب الدنيوي أو الأخروي قلّم أظافر الوحش، وكسر عنفوانه، وحين يجد تراخيا من سلطة القانون، وغلبة الهوى، يستيقظ الوحش الكامن في داخله، وينساب وفق ما تمت برمجته عليه، وعليك أن تتأمل الصراع الذي يحكم منطق الحياة، وقانونها الذي لا يختل إلى أن تقوم الساعة. لهذا قيل: الحياة شعلة إما أن تحترق بنارها أو تطفئها وتعيش في الظلام.
والحكمة تظلّ استثناء من القاعدة، قد تتجلى في فكرة، أو فلسفة، أو ممارسة، ولكنها تظل ومضة في حركة التاريخ. والإنسان يعرف الحكمة، ولكنه مع تلك المعرفة خاضع لتلك البرمجة التي تفعل فيه فعل السحر، وما أكثر ما نحفظ من الحكم، ولكن النظرية شيء والتطبيق شيء آخر، نحن فلاسفة نظريا، وحمقى واقعيا، وحين يدّعي الإنسان الحكمة فقد جهل نفسه، إنه في رحلة بحث عنها، وقد يجدها أمامه ولكنه لا يريد إلا ما يلبي رغباته، ويشبع احتياجاته، وقليلٌ من عبادي الشكور.
** في حياتنا مراحل إنسانية مختلفة.. من مرحلة الضعف إلى القوة وهكذا.. ماذا تتذكرون من وقائع في أثناء هذه المراحل؟
_الإنسان مجبولٌ على الضعف، فخالقه عز وجل الذي خلقه، قال عنه: وخلق الإنسان ضعيفا، فهو ضعيف في خلقته، وضعيف أمام نوازع نفسه، وضعيف أمام الصبر على المكاره والأقدار، الوعي بهذا الضعف هو مفتاح الحل، فحين يشعر الإنسان بضعفه يلجأ إلى مصدر قوة وهو الله تعالى، فينقاد لتعاليمه، ويتوكل عليه، ويصبر على الابتلاء، وينتمي للجماعة، ويترك الأنانية، ويزرع الرحمة والمحبة، وينابذ الفرقة والكراهية، وأنا لا أخرج عن هذا الناموس الإلهي، وفي كل مراحل حياتي مررت بظروف صعبة جدا، وهذا منطق الحياة، لكني بإيماني بالله تعالى ثم بوقفة الأهل والمحبين تجاوزت تلك المراحل بحمد الله، تغربت عن أسرتي وحملت أعباءها مع والدي رحمه الله وأخي الأكبر من الصف الأول المتوسط، وبعد حصولي على درجة الدكتوراه توفي الوالد رحمه الله وترك لنا سبع أخوات عظيمات وفقهن الله وأسعدهن، كانت الفجوة التي تركها الولد رحمه الله كبيرة، والمسئولية عظيمة، قاسمني فيه أخواي الأكبر والأصغر، بارك الله لهما في المال والولد والعمر والعمل الصالح، وبحمد الله تحققت دعوات الوالدين وأحلامهما رحمها الله، وأعظم أحلامهما أن نكون كما ربيانا مشاعل حكمة، كانا فلاحين بسيطين ولكنهما كانا عظيمين رحمهما الله، وأعتقد أن أعظم لحظات ضعفي هو وفاة والدي رحمه الله في حادث مرور بطريق الباحة، ووفاة والدتي عليها رحمة الله بعده بسنتين، في وقت كنت أحلم أن أرد لهما شيئاً من جهادهما العظيم، جزاهما الله خير ما يجزي والداً عن ولده.
** ما بين الربح والخسارة أو الخسارة والربح كيف تصفون أصعب المشاعر وأجملها؟
_الحياة ميدان سباق، والمشاركة في هذا السباق عرضةٌ للربح والخسارة، ومع كل نتيجة تحدث يكتسب الإنسان معرفة بالحياة وبمنعطفاتها، وقوانين الربح والخسارة فيها، وأسرار السباق والمتسابقين، والحياة ماضية لا تتوقف، وليس في هذا السباق خسارة دائمة ولا ربح دائم، فالناس بين رابح وخاسر، والسباق لا يتوقف، والذكي من يتعلم من الخطأ ليحقق الصواب، وليس المهم أن تخسر أو تربح، ولكن المهم ماذا خسرت وماذا ربحت؟، هنا يحصل التمايز في الربح والخسارة وفي المشاعر، فمن يخسر العرَض ويكسب الجوهر، غير من يكسب العرَض ويخسر الجوهر، ومن يكسب الحرب ويخسر المعركة غير من يكسب المعركة ويخسر الحرب، الخاسر هو الذي خسر نفسه، ولو كانت الدنيا كلها بين يديه، والرابح من كان الله معه، ومن كان الله معه فقل لي: ماذا خسر؟
** الحزن سمة إنسانية ثابتة.. هل احتجتم له يوما ما؟ وما هي أقسى لحظات الحزن التي مرت بكم؟
-يقول الفلاسفة: اسمح للحزن أن يمر من فوق رأسك، ولكن لا تسمح له أن يضع فيه البيض، الحزن دليلٌ على ضعف الإنسان، فحين يعجز عن مواجهة المصاعب لا يملك إلا أن يحزن، والحزن كما هو دليل ضعف فهو دليل محبة، لهذا قال نزار: اعذروني إذا بدوت حزينا.. إن وجه المحب وجهٌ حزين.
لحظات الحزن التي مرت بي كثيرة، في صغري تعرضت لحادث مروري منعني من مواصلة الدراسة ذلك العام فتأخرت عن زملائي، وحزنت عندما تم رفض قبولي طالب طيران بكلية الملك فيصل الجوية بسبب آثار ذلك الحادث، وحزنت عندما رفضت كلية اللغة العربية بجامعة أم القرى ابتعاثي للخارج، وعينتني معيدا بقسم البلاغة وأنا خريج قسم الأدب نكايةً بي، وحزنت بفقد والديّ، ولكن أفراحي أكبر، فقد تحولت إلى الطيران خلف الكلمات وما زلت حتى الآن محباً لهذا النوع من الطيران، ونجحت إلى حد ما في الاطلاع على كثير من الفتوحات العلمية والثقافات الإنسانية من خلال قراءاتي المتعددة، ووفقني الله إلى ملازمة الدعاء لوالدي في كل ركعة في أطهر البقاع، وأسبغ علي محبة الناس، وأسأل الله تعالي أن يجعل ما قدمت خالصا لوجهه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ومنحني أسرة عظيمة أدين لها بكثير من نجاحي وأفراحي.
** التوفيق والسداد هبة من الله تعالى.. ما هي أكثر المواقف التي مرت بكم توفيقاً وسدادا؟
_التوفيق لن يكون حليفك إلا بشروطه الموضوعية، وأولها بوصلة العقل، الذي يستحضر إخلاص النية، ويقرأ الواقع قراءة دقيقة، ويتخذ القرار المناسب في الزمن المناسب، وليس يلام المرء بعد اجتهاده، والأعمال بالنيات، وعلى الإنسان أن يتوقع كل شيء، والتوفيق قرين الصبر والصدق، كما هو قرين الإلهام الذي يحتاج إلى قابلية ذاتية، لهذا المستكبر مصروف عن التوفيق، والمواقف التي مرت بي كثيرة في مراحل حياتي، على المستوى الشخصي والعائلي والأكاديمي والإداري والثقافي، يصعب عليّ تعدادها، لكنها محفورة في الذاكرة، وأنوي إن شاء الله الحديث عنها بالتفصيل في السيرة الذاتية التي بدأت في وضع خطوطها الكبرى إن كان في العمر بقيّة.
** بماذا نربط الحياة السعيدة من وجهة نظركم الشخصية؟
_الإنسان مفطور على التشهيّ والبحث عن السعادة، والسعادة وهم من أوهام النفس الإنسانية، الإنسان يعتقد أن السعادة تكمن في الحصول على شيء ما وحين يمتلكه يفقد جاذبيته، ويبدأ بالبحث عن شيء آخر، فالسعادة أنينٌ من الموجود وحنين إلى المفقود، والإشكال كامنٌ في ثقافة الشرخ التي يخضع لها الإنسان فهو نظرياً مؤمن باستحالة القبض على السعادة التي هي كالماء، والقابض عليه خانته فروج الأصابع كما عبر الشاعر العربي القديم، ولكنه مع هذا الإيمان النظري على المستوى العلمي في كدح لا ينقطع، لكن ليس معنى هذا أن يتقاعس الإنسان عن البحث، فهو مأمور بابتغاء الدار الآخرة فيما أوتي وعدم نسيان نصيبه من الدنيا، ومشكلتنا الكبرى هي أننا نريد أن نستقبل طائرة السعادة ولكن المدرج غير صالح للهبوط، قد نبحث عن السعادة في الخارج وهي بين الحنايا، لكن المعاصرة حجاب، والإلف يقتل لذة الأشياء، ويطمس وجودها.
** هل نستطيع أن نعتبر السعادة أسلوب حياة؟
_لنتفق أولاً على معنى للسعادة، وهذا غير ممكن، فالسعادة مفهوم سيّال، يتشكل معناه لدى كل فرد وفق نمطه الذهني الذي يختلف فيه عن غيره، ولهذا قد تجد للسعادة معاني بعدد الباحثين عنها، داخل البيت الواحد، كل فرد يرى السعادة بمنظار مختلف، هناك من يرى السعادة في العطاء وهناك من يراها في الأخذ، وهناك من يراها في الصيت، وهناك من يراها في الغنى، وهناك من يراها في الماضي، وهناك من يبحث عنها في المستقبل، وهناك من يراها وهما، وهناك من يعتقدها حقيقة، وهكذا ستظل المسألة نسبية من شخص لآخر، السعادة كالشمس المضيئة لكنها لا تدخل الكهوف والأقبية المظلمة، والظلال في أعماقنا كثيفة جدا، ولذلك تأمل كثرة الأمراض النفسية، والتبرّم، والتشكي، مع أن الإنسان يعيش في نعيم ألفه فجحده، لأنه متعود على البحث عن المفقود، وغافل عن الاغتباط بما هو موجود، وقليل من عبادي الشكور.
** متى يصل الإنسان إلى محطات النجاح؟
_الإنسان في هذه الحياة لديه تذكرة سفر مفتوحة في محطات الحياة، في كل محطة يصل إليها يعتقد أنه حقق النجاح، لكن النجاح يخفت بريقه بالوصول للمحطة، والاستعداد لمواصلة الرحلة للمحطة القادمة، وهكذا كل نجاح يطمس ما كان قبله، فمحطة النجاح ليست ثابتة، ولكل محطة مذاقها الخاص، يروى عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول: تمنيت على الله الإمارة فنلتها، وتمنيت على الله الخلافة فنلتها، ومازلت أتمنى على الله الجنة، هذه محطة النجاح الحقيقية، لهذا نصحنا بعض العارفين فقال: كن سعيداً وأنت في الطريق إلى السعادة، فالسعادة الحقيقية هي في المحاولة للوصول وليست في محطة الوصول.
** ومتى تتوقف تطلعاتنا في الحياة؟
_تتوقف تطلعاتنا في الحياة عندما تتوقف نبضات قلوبنا، فنحن في الحياة بين دمعتين: دمعة الاستقبال، ودمعة المغادرة، وحياة تأتيها باكيا منها، وتغادر منها باكيا عليها، جديرة بالتأمل في الذات المتأملة وفي موضوع التأمل نشكو من الدنيا، ونشكو من الرحيل عنها حتى قال فيلسوف المعرّة ساخرا:
كلّ من ألقاه يشكو دهره ليت شعري هذه الدنيا لمن؟
وكلنا ندّعي العقلانية، ولكننا بلا عقول، هذه الحقيقة التي نراها ولا نريد الاعتراف بها، لأن الإنسان لا يريد من يدله على الحقيقة، يريد من يحقق مطالبه ويلبّي رغباته.
** في الأغلب ننصف الإنسان بعد رحيله من دنيانا.. متى ينصف هذا الإنسان قبل أن يرحل؟
_الإنصاف أن تعطي الإنسان ما يستحق، وتنزله منزلته، إنه العدل، ولكن الإنصاف عزيز على الناس، والنفس الإنسانية شحيحة في هذا الجانب، وعزة الإنصاف قد تكون بسبب الحسد، والغيرة، والتحيز، والتعصب والرغبة في الانتقاص، وما أعظم المتنبي عندما عبر عن مآلات عدم الإنصاف، وآثاره الاجتماعية فقال:
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم
إذا أردت أن ينصفك الناس فأنصفهم من نفسك ومن هواك، اصنع ذلك ولا تنتظر منهم جزاء ولا شكورا، لكن اعلم أن الله سينصفك.
** في الاستشارة.. من يستشير ضيفنا الكريم في مواقفه الحياتية المختلفة؟ ولماذا؟ وما هي أهم استشارة مضت؟
الإنسان قليل بنفسه كثير بإخوانه، والاستشارة حكمة، لذلك قال عروة بن حزم:
خليليّ إن الرأي ليس بمفردٍ أشيرا عليّ اليوم ما تريانِ
ونوع المستشار متوقف على طبيعة الاستشارة فقد تكون علمية أستشير فيها أساتذتي الكبار وزملائي الذين ألمس لديهم اهتماما بالأمر، وقد تكون عائلية تبدأ بالأسرة، وقد تكون قانونية أو طبية أستشير فيها أصحاب الشأن، وما خاب من استشار ولا ندم من استخار.
** متى غض النظر ضيفنا في المواقف المصاحبة له؟ وهل تذكرون بعض هذه المواقف؟
يقول الأمير خالد الفيصل:
لو كل زلة رفيق آشيل منها واضيق عذرت في الرفقة وصكيت بيبانها
ما كل من قال أنا صاحبْك اعدّه رفيق ولا كل زلة رفيق ازعل على شانها
تكتشف عظمة الإنسان عندما تختلف معه، وقد اختلفت مع الكثير، واختلف معي الكثير، ولكن الخلاف لم يخرج بحمد الله إلى دائرة القطيعة والعداوة، الحياة موجبة للصدام والاختلاف؛ لأن الاختلاف سنة كونية، والحكيم من يدير خلافاته مع الناس بذكاء، ويترفع عن النقائص، وتتبع العثرات، وقليلٌ ما هم، والأهمية لا تكمن في ذكر حوادث معينة بقدر ما تكمن في الفكرة نفسها، المهم القدرة على تجاوز العثرات، والانشغال بما هو أبقى
** هل ندمتم على سكوتكم يوماً؟ ومتى ندمتم على بعض كلامكم؟
_كان الإمام أبو حامد الغزالي يقول: يا بنيّ فرق بين أن تقول: ليتني قلت، وأن تقول: ليتني لم أقل، لا شك أن الإنسان يندم على السكوت أحيانا، ويندم على الكلام أحيانا، وفرق بين الندمين، وقد عده شكسبير فضيلة لا يفقدها إلا من فقد الأمل، وعده علي رضي الله عنه نتيجة غضب عارم فأوصى بالصبر؛ لأن لحظة الصبر في لحظة الغضب تقي ألف لحظة من الندم ومن منا لم يندم وإذا ندمت على سكوتك مرة فلقد ندمت على الكلام مرارا كما قال أبو العتاهية.
** في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة أحاديثنا تختلف عن واقعنا.. إلى أي مدى ترى صحة هذه الجملة؟
_في مواقع التواصل الاجتماعي غالبا يفقد الإنسان ذاته في لحظة الرضا ولحظة الغضب، فهو يقف على زاوية حادة، إذا رضي وقع تحت سلطة الجمهور، وأصبح رضا الناس الغاية التي يعتقد أنها تدرك، فهو يبحث عن هذا الرضا لينال منهم الإعجاب، ونشأ ما أسميه بالتسول الافتراضي، وهو البحث عن الإعجاب وتدوير الكلام، وزيادة الرصيد من المتابعين، وحين يغضب يتحول إلى تسونامي يدمر كل شيء بأمر ربه، فهو فاقد لقدرة التحكم في ذاته، هشاشة نفسية، ومواقف سائلة، وفي وسط هذا الركام هناك ومضات أندر من الكبريت الأحمر، والوقت كفيل بغربلة الأفكار والمواقف.
في الواقع الأمر أقل حدة لأن المواجهة من خلف الشاشة الزرقاء مواجهة مقنعة، وسريعة، في الحب والكراهية والقبول والرفض، بضغطة زر يمكن أن يعرج بك إلى السماء، وبضغطة زر أخرى يلقي بك في الجحيم، يشيد بك، أو ينتقص منك، هذه الحدية أعادت تشكيل وعي الناس وعبثت بعقولهم.
** في حياتنا اليومية هل افتقدنا حقيقة إلى الإنسان القدوة؟
اليوم يعاد تشكيل وعي الإنسان ومنظومة القيم، فعصر التقنية يؤسس لمفاهيم وتصورات جديدة عن الجماعة، والفردية، والوعي، والمعرفة، والصداقة، والسعادة، والقدوة وما إلى ذلك، والعصر في سيولة لا تتوقف، وعرض مفتوح يتيح للجميع الإسهام فيه، ومن الظلم للعصر وللحقيقة أن يقال: إننا في عصر بلا قدوات، فالخير والشر والحق والباطل والجودة والرداءة ثنائيات حاكمة منطق الحياة، المشكلة في نفَس العصر الطاغي، أنه نفَس أشياء وليس نفَس أفكار، فنحن اليوم مولعون بالأشياء، وبتكديسها، والتفاخر بامتلاكها، فهي التي تحدد مكانتنا الاجتماعية، فقيمة الإنسان بما يملك من أشياء لا بما يملك من أفكار، وصار القدوات اليوم هم صناع الأشياء، لا منتجو الأفكار، ولهذا غمرتنا ثقافة الاستهلاك، وتحولنا إلى تروس في آلة، عززت ثقافة الاستهلاك ترسانة الإعلام الهائلة التي تعرض المنتجات وتتنافس في تجميلها، وصار القدوة هو من يملك هذه الأشياء، ولكن الذي يشعرني بشيء من الطمأنينة في هذه الحلكة هو هذا التحول النوعي في بلدنا، فنحن نعيد اكتشاف أنفسنا، وقيمنا من جديد، فالتحول القيمي والفكري الذي بدأنا نقطف ثماره في رؤية المملكة 2030 يبشر بنهضة حضارية كبرى، ومن يتابع إبداعات الشباب السعودي يشعر بالغبطة، وما كان هذا ليتحقق لولا توفيق الله، ثم بزوغ نجم الأمير محمد بن سلمان الذي أصبح قدوة وأيقونة إبداع للإنسان العربي في هذا الزمان، وربّ همة أحيت أمة.
_الأبناء في الوقت الحالي هل يحتاجون إلى الرأي والمشورة منا؟ وهل المسافات بعدت بيننا وبينهم؟
الحاجة إلى الرأي والمشورة كالحاجة إلى الطعام والشراب والهواء، وكان الإمام علي رضي الله عنه يقول: الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استبد برأيه. والمسافة التي بيننا وبين أبنائنا مسافة وهمية صنعناها وصدقناها، وصرنا من ضحاياها، مشكلتنا مع أبنائنا مشكلة وعي ومشكلة لغة، والأمران مترابطان، فنحن لدينا قاعدة تقول: من عرفك صغيرا حقّرك كبيرا، نحن نعتقد أنهم غير مؤهلين لخوض الحياة، وأنهم يفتقدون للتجربة، فتتحول المشورة إلى كوابح لحركتهم، وتعطيل لقدراتهم، ونمارس معهم لغة الوصاية، وهي لغة أمر ونهي، وبدلا من أن تكون اللغة وسيلة تواصل أصبحت وسيلة تفاصل. الشفرة بيننا وبين أبنائنا مفقودة ولذلك لا يفهم بعضنا بعضا، وهذا ما تطرقت له في دراسة لي بعنوان: الفصاحة وحراسة النسق، نحن عاجزون عن التعبير بلغة بعيدة عن الوصاية، وهم عاجزون عن الفهم؛ لأنهم يريدون لغة ملهمة ومحفزة، إنهم خارج التغطية.
** الدنيا طويت على غرور.. متى وجدتم هذه العبارة ماثلة أمامكم؟
_يقول الله تعالى: وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، والبلاغيون يقولون: إن الاستثناء بما وإلا يكون في سياق جهل المخاطب أو إنكاره، فلما فتن الإنسان بزينة الدنيا نُزّل منزلة من يجهل حقيقتها، وهذا حق، غرور الحياة يعني فيما يعني جمالها، ووقوع الإنسان في أسر هذا الجمال، والعاشق يفنى في المعشوق، ويفقد صوابه، وهذا ما حذرنا القران منه، لكن لا يعني أن تتحول الحياة إلى أزمة كما يصور كثير من النساك الذين نسكوا نسكاً أعجميا، فيمكن أن نحب الحياة، ونستمتع بما فيها، ولكن لا نعلق في شباك الغرام.
** من أنبل الناس في رأيكم؟
_أنبل الناس من يعمل الخير، ويتمثل بالحق، ويكتسي بالجمال في صمت، لأنه يفعل ذلك محبة وإيمانا، وشعورا بالواجب، وليس بحثا عن الإشادة والتصفيق.
** المحبطون هم أشد الناس تعاسة.. هل صادفتم هذه الفئة؟ وكيف تعاملتم معها؟
_الإحباط هو الإيمان بالفشل، والإذعان له، والمحبط هو إنسان فاشل مهمته تسويق الفشل ليغتبط بما هو فيه، ويأنس بوجود جماعة سيكولوجية تقاسمه هذا المرض، وما أكثر هذا الصنف من الناس، والشعور بالإحباط غريزة إنسانية، والناس يختلفون في التحكم في هذه الغريزة، لأسباب كثيرة، منهم من يقمعها كلما سمع لها همسا، ومنهم من ينصت لها ويعدها الرائد الذي لا يكذب أهله، وقد مررت بمواقف كثيرة صادفت فيها الكثير من هؤلاء، أسمع منهم بحكم القرابة أو الزمالة أو الصداقة، ولكني في العادة أنفذ ما أردت بعد التوكل على الله والأخذ بالأسباب.
** هل ندمتم يوماً في النقاش مع أصحاب الوعي والإدراك؟ وهل ندمتم في النقاش مع غيرهم؟ ولماذا؟
_مع أصحاب الوعي لم أندم، لأنهم يضيفون إلى وعيي وعيا، فأنت دائما لا ترى إلا ما هو داخل بنيتك التصورية، والآخرون قد يدركون ما لا تدرك لأنه قد يكون ضمن بنيتهم التصورية، وهذا نلمسه في قراءة النصوص والحكم على الجمال، والمواقف والأشخاص، كلّ منا يركز على جانب معين تنطوي عليه بنيته التصورية، أما غير أصحاب الوعي فكم ندمت لأن من يحاورك مهتم بالغلبة وليس بالحق، والحوار مع الجاهل معركة خاسرة، فمع أنك تضبط أعصابك، وتقدم حججك، لكنه يزيد تشبثاً بموقفه؛ لأن إيمانه بخطأ فكرته واعترافه بضلال تصوره من خوارم المروءة تؤدي إلى انكشاف جبهته الداخلية، وإلحاق العار به، وكم كان الجاحظ يحذرنا من مجالسة الحمقى ومحاورتهم، لأن الفساد أشد علوقا بالطبائع.
** أين الشاعر صالح الزهراني في الوقت الحالي؟
_في رحلة الحياة، أحمل على ظهري حصاد ستين عاما من المشي في مناكب هذا الكوكب، آلام وآمال، طموحات وانكسارات، نجاحات وإخفاقات، راضٍ بما قسم الله لي، أحيى بروح الفنان، شعوري أن اليوم أفضل أيامي مهما كان، وأن غدي أفضل من يومي، أحاول أن أتخفف من أشياء كثيرة، لذلك يقولون: الأذن في الستين تتحول إلى سلة مهملات، يتجاوز الإنسان في هذه المحطة عن الأشياء الصغيرة، ويرتب أولوياته، أقضي أغلب وقتي في القراءة، فالمبتهج بالمعرفة هذه عدته، لا أقول: إن صوت الشاعر بدأ يخفت في داخلي، لكنه بدأ يستمع أكثر من أن يتحدث، أنجزت بحمد الله مجموعتي الشعرية التاسعة: الحزن هذا ليس لي، وآمل أن ترى النور قريبا.
** لماذا أنت مقل في حضورك المنبري؟
_لم أكن حريصاُ على المنابر من زمن بعيد، كنت أحضر غالبا في فعاليات شعرية في الداخل والخارج باسم الوطن، اليوم أوازن بين مطالب الأستاذ الجامعي، وواجبات الشاعر والمثقف، وقدمت ما يمكن تقديمه، وحب الظهور يقصم الظهور كما قيل، مؤمن بفكرة النار والفراشة، فالفراشة حين تقترب من النار تحترق، وحضوري مرتبط بالإضافة النوعية وليس بتسجيل المواقف الشخصية، وهذا يجعل القارىء يحترمك، ويشتاق إليك، وقديما قال بعض السلف: طلبنا العلم للدنيا فطلبنا العلم للآخرة.
ألم تر أن الشمس زيدت محبة إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد.
** كيف ترى برامج مسابقات الشعر؟ وهل خدمت الشعراء؟
_مسابقات الشعر، خدمت الشعراء، وأعادت الشعر للأضواء، لكنها تريد فرض وصاية على الشعر والشاعر، ولذلك تجد كثيرا من الشعراء يكتب نصوصه للمسابقة، وهذا قد يكون على حساب تلقائية الشعر وخصوصيته، هذا فرض وجود نصوص شعرية تتكاثر كنباتات الفطر السام، متشابهه في أفكارها، ولغتها مرتبكة، المسابقات أكثرت من الشعراء ولكن الشعر الحقيقي قليل جدا.
** أين الشعراء الكبار عن ملتقياتنا الأدبية المتنوعة؟
_الملتقيات أمس واليوم وغداً، تحكمها العلاقة وليس الكفاءة، ولكن النص الجميل والشاعر المبدع لم يعد اليوم محتاجا إلى ملتقيات، فهو يملك وسيلة التواصل مع الناس، وبإمكانه أن يصل إلى أبعد نقطة من العالم، لكن ما البضاعة التي يريد تصديرها، هل هي جديرة بالحفظ أو جديرة بالنسيان؟، القصيدة بين خيارين إما أن توقد النور، أو ترمى في النار، سعد بن جدلان رحمه الله جاءه الإعلام يحبو حبوا، ونشر إبداعه، والشاعر الضعيف لو أصبح وأمسى في أعظم قناة فضائية لتعوذ الناس من شره وشر قصائده، ويقول وصل العطياني:
والشاعر اللي نص نص وبين بين تلقاه يركض من قناة إلى قناة
حرصه على دبلة كبود المسلمين أشد من حرصه على فرض الصلاة
** هل هناك كلمة أخيرة لضيفنا الفاضل في نهاية هذا اللقاء الممتع؟
_شكرا لجريدة “مكة” الإلكترونية، وشكرا لرئيس تحريرها اللامع الأستاذ عبد الله الزهراني، وجميع العاملين فيها، ودعائي لكم بالتوفيق وتحقيق المزيد من الإبداع.