المقالات

مذكرات قلب مثقوب

جدتي وموسمُ الهجرةِ إلى الجنوب (١-٢)

تحت أشجار طرفاءِ المدينة التي تهب عليها رياحُ الربيع الباردة فتتمايل وتتراقص بأغصانها كريشة رسامٍ في مرسم فرنسي كانت جدتي تهم بالانصراف لصلاة الظهر بعد أن ختمت فصول حكاويها بالاستغفار
جدتي بتجاعيد وجهها التي لا يشبهها إلا أخاديد الصخور الصلبة التي رسم عليها الزمن خطوط حياة .

بتلك التجاعيد الواثقة وتلك النظرات الحادَّة مع ابتسامةٍ صامتة تتوجه للوضوء والصلاة ونحن الصغار نتبعها كذرٍّ صغيرٍ يتبع نملةً كبيرةً في صفوفٍ متعرجة بين حبات رملِ المدينة وكان غالب أبناء الحي لا يملك نعلاً في رجله فتعوَّد المشي حافياً
غير مكترثٍ بحرارةِ الرمل سيما مع وقت الربيع تخف تلك الحرارة وتسمح لأصابع الطفولة أن تخط عليه قصة حياةٍ ورحلةَ زمنٍ بآثارٍ على رمال.
في الظهيرة يعم السكون بحارة النصر  وقت هاديء يخترقه صوتُ حفيفِ الطرفاء ويرنُّ في جنبات بيتنا الشعبي صفيرٌ جميل  يعزف موسيقى خاصة لم يعرفها بيتهوفن يخترق آذان النائمين في الظهيرة فيوقضهم للغداء حيث تجتمع الأسرة ( الأب: غرم الله بن علي .الزوجة: رفيعة بنت ناصر .الأبناء الأشقَّاء: منصور .عائشة صفية. محمد الخامس. زين العابدين .سهيل . حاتم . ) كلهم يشكلون دائرة حُبِّ حول سفرةٍ صغيرةٍ واحدة على الأرض بدون طاولة طعام بتواضع شديد.
ولا يتخلَّف سوى جدتي التي تكون في غرفتها تتفقد سحَّاريتها وهي عبارة عن صندوقٍ صغيرٍ ملَّون ومُزركَش لا أنسى القفل الكبير الذي تضعه عليه ياترى ماذا يوجد في سحَّارية الجدَّة لا شيء يُذكر ولا يستحق عناء ذلك القفل الأصفر الكبير الذي لم يكن لخوف السرقة ولكنها كانت حريصة على عدم عبثِ الصغار بأدواتها الخاصة : مشط .كُحل. مكحلة . قِطع صغيرة من الأقمشة. ملابس مرتبة ترتيباً خاصاً. أدوات خياطة. إبرة خياطة كبيرة. وصوف . كبريت صغير أحمر ولطيف. وأشياء أخرى…
وحين تنتهي تضع السحَّارية تحت سريرها المتواضع وتجلس على السرير أو تستلقي عليه ليس كجثةٍ هامدة ولكن كعودٍ نحيلٍ صامدٍ رغم صعوبةِ الأيامِ وقسوةِ الحياة .
كانت حياة الجدة عبارة عن ثلاث مراحل :_
المرحلة الأولى : فترة الجنوب حيث مسقط رأسها ونشأتها  وشبابها وزواجها وموت زوجها وهرمها وهي الأشدُّ قساوة جمعت بين الفقر والفاقة وشظفِ العيش وشهدت تاريخ الحروب القبلية والنزاعات القروية لقد عاشت تتأرجح بين الحُب والحرب وصعوبة البحث عن مصادر الرزق التي كانت تقتصر على مزارع متواضعة لاتغني ولا تسمن من جوع إلا إنها تحفظُ ماء الوجه من ذلِّ السؤال أتذكرُ ولا أنسى إن والدي عمل ستة شهور في مزرعة إحدى القرى بريالين فقط ولا يغيب عن الذاكرة إنه ذكر لي وهو يحكي قصص رحلات شباب القرية ونزوحهم منها لطلب الرزق إنه ذهب للسفر مع بعض شباب القرية ورجالٍ منها فلحقتهم جدتي مسافة طويلة تنادي
_ ياغرم الله يا غرم الله
_نعم خير عسى خير
_ لقيت لك ياولدي ريال خذه معك ينفعك في السفر .
_ الله يبشرك بالخير والله ما معي شيء .
_ أدر ي ياولدي الشكوى لله .
_ الحمد لله أبشري إن شاء الله اجتهد واشتغل وانتي ارتاحي لو ما تعَّبتي نفسك .
_ ماعندي الا انت ياولدي .
تغرورق عينا جدتي بالدموع وهي تلفظ آخر كلمة وداع بعد أن يقبل يديها ورأسها وهي تقول
_ الله يوجِّه لكم ويحفظكم من شر الناس والسّكُون .
(والسّكٌون) تعني الجن والشياطين التي كانت ضمن موروث القرية وتراثها الشعبي  الذي يتداول بكثرة في قصص خرافية لا يقبلها العقل.
تعود الجدة أدراجها مبتسمةً لاهثةً إلى القرية وبيت شعبي ليس فيه أدنى مظهر من مظاهر الحياة غير بقرةٍ صفراءَ هزيلة لاتسرُّ الناظرين . وكان بعض شباب القرية يسافر لقرى ومدن أخرى ويجاودُ بنفسه ومعنى ذلك إنه يشتغل عند ناس كخادم أو عامل أجير بأجر شهري
أو يومي .. في المزرعة أو البيت يعمل عمل الخادمة اليوم فالحمد لله على تبدُّل الحال .
المرحلة الثانية : مرحلة انتقالها للمدينة عند ابنها غرم الله الذي فتح الله عليه أبواب الرزق بأعمال كثيرة في مدن متعددة حتى استقر بالمدينة المنورة للعمل في قصر الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز _رحمه الله_ ثم في الجامعة الاسلامية بسفحِ العقيق مع عمله في مكتب عقارٍ صغيرٍ متواضع في ثنيَّة الوداع أشهر أحياء ومعالم المدينة النبوية وهناك كانت حياة الجدة أكثر استقراراً وسعادةً وإن كانت في القرية أكثر ارتياحاً لجمال الريف وبساطة الحياة وبلد النشأة ووطن الأجداد حتى إنها كانت تقول
_ ياغرم الله ما ابغى اموت إلا عند آبي وجدي وتكرر هذه الأمنية وهي أكبر الآمال والأماني أن تدفن جوار أبيها وجدها كانت تظن إن ذلك القرب يبعث لها نوعا من الأمان ويعبر عن حقيقة ورسوخ وعمق أواصر الحب.
ولاشك إن قرب القبور من بعضها قرب حقيقي باعث للأمان _بإذن الله_ لذا كان الصالحون يحرصون على الدفن بمقابر العُبَّاد والزُّهاد  وأهل الصلاح والتقوى. لثبوت تزاور الصالحين من الموتى فيما بينهم حتى مع تباعد المقابر كما ثبت في الأحاديث الصحيحة والله أعلم بحقيقة الحال .
وفعلا تحققت لجدتي تلك الأمنية في المرحلة الثالثة من حياتها حين طلبتها ابنتها (رفعة) للعودة للجنوب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى