تحدث المؤرخ المصري “محمد لبيب البتنوني” في كتابه (الرحلة الحجازية)، عن مناخ مكة المكرمة والوضع الصحي للسكان والحجاج فيها خلال أدائه لفريضة الحج عام 1327هـ قائلًا:
أهواء مكة تختلف في هبوبها جملة مرات في الساعة الواحدة. ولهذا يقول المكيون: “إن الله خلق سبعين هواء جعل منها في مكة تسعًا وستين، وفي العالم كله هواء واحدًا”، لأن الهواء يدور في جو المدينة بين جبالها المحدقة بها كما تدور الدوامة على سطح الماء. فبينما تراه يدخل إلى المساكن من النافذة الغربية إذا به انقطع عنها ودخل من الشرقية أو الشمالية أو الجنوبية وهكذا؛ ولذلك تجد مساكنهم كثيرة النوافذ وغالبها إلى الجهات الأربع حتى لا تحرم من الهواء من أي جهة كان. الهواء البحري عندهم-وهو الغربي-أحسنها وألطفها؛ لأنه يأتي من جهة البحر، ثم هواء الشام، أما الجنوبي والشرقي فهما حاران، ويفسد هواء مكة في أيام الحج لكثرة الساكنين فيها وعدم العناية بنظافتها، وتكثر فيها زمن الشتاء أمراض الصدر، ويندر فيها التدرن الرئوي.
وليس بمكة على كبرها ميادين عمومية، اللهم إلا صحن المسجد الحرام الذي بسعته يؤدي وظيفة الميادين الكبرى. في زمن الحج تكون الطرق في غاية الوساخة والقذارة، لدرجة أن أهل مكة يضعون دائمًا سدادتين من القطن في فتحتي مناخيرهم بعد أن يغمروهما بدهن المرور، ويسمونها الصمائم، ويربطونها بخيط يعلقونه في رقبتهم.
في زمن الصيف تكثر الاحتقانان الدماغية وضربات الشمس وأمراض العين والكبد والجهاز الهضمي والدوسنتاريا خصوصًا بين الأطفال، ويسببها عندهم أكل السمك العفن والفواكه غير الناضجة، وفي زمن الحر تكثر فيهم الحميات لا سيما عند فساد مياه الشرب، ويكثر فيهم مرض الجدري، وبسببه يموت أكثر من اثنين في الألف من السكان. أما الكوليرا فلم تظهر في مكة إلا سنة ست وأربعين وألف هجرية؛ أي في نحو سنة 1825م، وفدت إليها مع حجاج الهند، ولا تزال تفد إليها معهم. في مكة مستشفى معروف باسم (شفخانة الحاصكية)؛ فيها أربع أجزاخانات: اثنان في طريق المسعى وواحدة في مصلحة الصحة (بجياد)، والرابعة أشبه بدكان عطارة بسيطة فيها من الأدوية ما فسد غالبه، وأصبح ضرره أكبر من نفعه.
وعلى كل حال فالعناية بالمسائل الصحية بمكة قليلة جدًا؛ لأن ثقتهم بالطب القديم الذي مداره على الكي والفصد والحمية الشديدة وبعض أصناف العطارة الشرقية كالمر والصبر أكبر من ثقتهم بالطب الحديث.
وعن المصادر المائية في مكة المكرمة قال: إن أهل مكة يشربون من ماء الآبار التي فيها مثل بئر(زمزم) أو التي في ضواحيها كالزاهر والعسقلاني والجعرانة وغيرها، أو من الصهاريج التي تملأ من مياه الأمطار والينابيع، أو من عين (زبيدة) التي تجري ماؤها إلى المدينة في قنوات تحت الأرض لها خزانات في شوارعها يملأ السقاءون قربهم منها.
وهذه العين لها أهمية عظيمة جدًا، وهي من أجل الآثار التي تنسب إلى السيدة (زبيدة) زوج الخليفة (هارون الرشيد)، وكان السبب في إنشائها أن هذه السيدة البارة رأت في حجها ما كان ينال أهل مكة وحجاج بيت الله الحرام من العناء الشديد والأهوال الكثيرة لقلة الماء؛ فأمرت -رحمها الله- بإجراء الماء إلى مكة من عين (حنين) التي توجد فيما وراء (عرفة) على بُعد نحو خمسة وثلاثين كيلو من مكة المكرمة. في نهاية القرن السابع الهجري طم مجرى هذه العين، وتهدمت قناتها وانقطع ماؤها، ونال الناس من ذلك جهدًا عظيمًا.
وذكر الفاكهي في تاريخ مكة: أن الأمير (جوبان) نائب السلطنة بالعراق أرسل رجلًا من خاصته اسمه (بازان) لتعميرها سنة 726هـ، وفيها جرت مياه العين إلى سقايته التي بناها في المسعى وسماها باسمه، ويظهر أن هذا الاسم تغلب على باقي السقايات التي بمكة حتى صار يطلق على كل واحدة منها اسم (بازان).
وذكر الفاكهي أيضًا، ما زالت هذه العين حياة لأهل البلد الحرام وحجاج بيت الله المعظم حتى أهمل شأنها وتهدم بنيانها، وانقطعت مياهها مرة أخرى فيما بين 930 و970 من الهجرة، ونال الناس من ذلك أهوالًا ما كانت تخطر على البال، حتى بلغ زق الماء (قربة الماء) بعرفة في غضون هذه المدة ليرة ذهبية.
اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا
0