إن الصورة الذهنية النمطية لشخصية المريض النفسي عبر الحضارات والثقافات القديمة والحديثة، كانت صورة تزدري حال الإنسان المريض النفسي؛ فتحط من كرامته وتبتذل إنسانيته فنجدهم يقومون بتصرفات لا إنسانية أو أخلاقية تجاه المريض النفسي مثل تقييد أطرافه بالسلاسل، وتكبيله بالقيود ومنعه من حرية الحركة والتنقل، وعزله في غرف خاصة بعيدًا عن أفراد المجتمع، وعن الأسرة كما حدث في عصور الظلام الوسطى في الغرب أثناء هيمنت الكنيسة على العقول البشرية، وكان يعتقد أن المرض النفسي سببه أمراض روحية شيطانية قد تنفذ إلى أجساد الأسوياء فتتلفها فلذلك يقومون بنفي المريض النفسي بعيدًا عنهم في محاولة للتخلص من روحه الشريرة!! فيعيش المريض النفسي بشعور أنه شخص منبوذ؛ لأنه غير سوي عقليًا واجتماعيًا ونفسيًا، هذه الصورة الذهنية السلبية وغيرها الكثير التي تكوَّنت في العقول من خلال المسلسلات الدرامية التي صدرت لنا معلومات مغلوطة ترسبت في فكر وأذهان أفراد المجتمع وثقافته وهذه النظرة غير الصحيحة يجب أن تتغيَّر في مدركاتنا العقلية والمعرفية؛ فعلينا أن نعي في عين اعتبارنا عند التعامل مع المريض النفسي بأنه في الأصل إنسان يحتاج إلى تفهم ومراعاة ولديه احتياجات ويحتاج لعلاج، ويمكن له بعدها أن يستعيد تمام عافيته بمجرد تلقيه العلاج اللازم، والمريض النفسي ببساطة هو شخص واجه عدة ضغوط نفسية وحياتية وأحداث كانت أكبر من حجم استيعابه وطاقته النفسية؛ فيحتاج إلى دعم ومساندة لتجاوز تأثيراتها، وتسهم وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بشكل أو بآخر في تكون مفاهيم خاطئة حول الصحة النفسية بشكل عام والأمراض النفسية بشكل خاص، ويؤثر انتشار هذه المفاهيم سلبًا على حياة الملايين من الناس حول العالم؛ حيث إن تبديد هذه المفاهيم وتصحيحها، خطوة مهمة للسعي وراء صحة نفسية أفضل، والقضاء على ما يحيط بهذه الأمراض من فهم عار نابع من الجهل بها، ومن هذه المفاهيم المغلوطة أن المرضى النفسيين هم أشخاص عدوانيون وعنيفون، والصحيح وهو ما تُشير إليه الإحصائيات إلى أن نسبة قيام مصابي الأمراض النفسية بأعمال عنيفة أو عدوانية تزيد بشكل طفيف عن ما هو الحال بين غير المصابين. وقد أشارت أبحاث أخرى أن النسبة لا تختلف بين الفئتين أبدًا. علاوة على ذلك، فإن مصابي الأمراض النفسية يعتدى عليهم أكثر مما يعتدون على الآخرين من الأسوياء، ويذكر أن مصابي الفصام، على سبيل المثال، غالبًا ما يكونون خائفين وليسوا عدوانيين كما نعتقد، وفي خلاصة حديثنا نؤكد أن المرض النفسي لا يمنع صاحبه من العمل أو الإنجاز والتطور، وأكبر دليل على ذلك عالم الرياضيات الأمريكي الشهير جون ناش، الذي حصل على جائزة نوبل، وكان يعاني من مرض “الفصام”، وانتصر على أوهامه وقاوم المرض بالعلم والمداومة على الأدوية، فكان يعترف بمرضه النفسي، ويعي جيدًا أن الخيالات التي يراها ويسمعها غير حقيقية، ولن تؤثر على طريقه وقدرته على العطاء العلمي، لذلك بات أحد أشهر علماء الرياضيات في العالم، وأنتجت عنه السينما الأمريكية فيلمًا هامًا بعنوان “العقل الجميل”، حصل على العديد من جوائز الأوسكار.
بقلم د/ تركية الشهراني
أخصائي أوَّل نفسي
عضو الجمعية العلمية السعودية للإرشاد النفسي