كان أحد كبار الأثرياء يتقلّب في رغد من العيش، وكان يسكن مع أفراد أسرته الكبيرة في قصر ضخم وفاره، كان لدى ذلك الثري عشرة من الأبناء والبنات؛ لكنه لا يساوي بينهم في التعامل حيث يعمد إلى تخصيص بعضهم بهبات وأعطيات دون الآخرين ودون مسوغ شرعي أو تنظيمي ولا حتى منطقي، فقد كان يغدق العطاء على اثنين أو ثلاثة منهم فقط بينما كان يقتر على البقية ناهيك عن أنه يتعامل معهم بقسوة كبيرة، ويتحدث إليهم بكل غلظة وجلافة، وكان لا يسمح لأحد منهم بالنقاش أو إبداء الرأي حول أي موضوع كان؛ حتى وإن يكن الموضوع يخص ذلك الابن أو يحدد مستقبله، على العكس في تعامله مع الأبناء المقربين منه، فقد كان لينًا ورقيقًا في التعامل معهم، وكان يستمع لآرائهم ويتلمس احتياجاتهم، لذلك فإن الغالبية من الأولاد أصبحوا يشعرون بالظلم وهو يقع عليهم في كل يوم وليلة، الأمر الذي حدا بهم إلى التسرب ومغادرة القصر واحدًا تلو الآخر.
فمن الأولاد من ذهب ليعيش مع عمه وآخر ذهب للعمل لدى خاله وثالث ذهب إلى أحد أصدقائه، وهناك من ذهب للعمل لدى شخص لا يمت له بصلة قرابة أو معرفة؛ لكنه وجد عنده التقدير والعطاء والتحفيز الذي يوازي جهده وإنتاجيته، وكان بالفعل يلمس حسن التعامل معه ومع غيره دون تفرقة. لكن المشكلة الكبرى أن ذلك الأب لا يفهم ولا يريد أن يتفاهم؛ حيث ما زال في غيه وطغيانه؛ فكلما سأله أحد عن أسباب ترك أولاده للمنزل والعيش بعيدًا عن الأسرة؛ تعذر بأن أولئك الأبناء عاقون، وأنهم يبحثون عن مصالحهم الخاصة، وقد وجدوا فرص للعمل والراحة فابتعدوا عن الأسرة، ويتجاهل ذلك الأب الاعتراف بالسبب الرئيس في وجود هذه المعضلة والمتمثل في التمييز والتفرقة بين الأولاد.
تتبادر إلى ذهني هذه القصة كلما استمعت إلى مسؤول في أحد المؤسسات، وهو يبرر سبب ارتفاع معدل التسرب الوظيفي في مؤسسته، أو حين يبرر أسباب عدم إقبال الكفاءات المتميزة للعمل في مؤسسته؛ ويعزو تلك الأسباب إلى توفر فــرص وظيفيــة بمزايــا كبيرة ومغريــة في مؤسسات أخرى!! بل ربما اتهم أولئك الموظفين المغادرين بأن ليس لديهم ولاء وظيفي للمؤسسة، وأنهم يسعون خلف مصالحهم الشخصية. هذا المدير وبكل أسف لا يبحث عن الأسباب الحقيقية، وإنما يحاول المراوغة واختلاق لحجج واهية وأعذار وهمية لإيهام نفسه وإقناع الآخرين؛ وبخاصة المسؤولين في الإدارة العليا بتلك الأعذار. لكن عليه أن يعي أن الناس أصبحت اليوم تدرك حقيقة: أن غالبية الموظفين لا يغادرون مؤسساتهم، ولكنهم يغادرون مديريهم. وإذا ما أراد تفادي هذه المشكلةفإن عليه البحث بكل صدق وجدية عن الأسباب الحقيقية التي تقف خلف فقدان الكثير من الكفاءات، كما يتحتم عليه بذل الجهود المناسبة، والتوجه بشكل مختلف في تعاملاته مع كافة العاملين، كما أن عليه أن يدرك بأن كثيرًا من الكفاءات التي تغادر مؤسسته؛ إنما ترحل في الغالب إلى مؤسسات بنفس إمكانيات مؤسسته إن لم تكن أقل، وأما المزايا التي يتحدث عنها في تلك المؤسسات؛ فهي ليست مغرية لتلك الدرجة التي يحاول تصويرها للآخرين.
الواقع أن هناك أسبابًا حقيقية ومنطقية ربما يلخصها له الراحلون عن المؤسسة، بل ويقر بها حتى أولئك الذين مازالوا على رأس العمل في مؤسسته؛ الذين يتحينون وجود فرصة مناسبة ليرحلوا كما رحل غيرهم من قبل؛ وأهم تلك الأسباب تتلخص في سوء التعامل مع منسوبي المؤسسة والنظر إليهم نظرة دونية، كما أن المحاباة لبعض الموظفين على حساب الأغلبية يشعر تلك الأغلبية؛ وخاصة أصحاب الكفاءة منهم بالأسى والألم، وتظهر تلك المحاباة والمحسوبية في كثير من المواقف فتتجلى في تكليف شخص غير مؤهل في منصب مهم رغم أنه لا يمتلك القدرات والخبرات التي يتطلبها ذلك المنصب، وفي ظل وجود من هو أجدر منه، بل ربما جعل أصحاب الخبرة والكفاءة تحت سلطة ورحمة ذلك الأفدغ أو تلك الفدغاء!!، فمعايير التكليف لدى ذلك المدير الأهوج هي: المحسوبية والتزلف والتملق والتغنج والخرفنة بكافة أشكالها وفنونها.
كما أن من أسباب التسرب الوظيفي عدم التزام المدير بالوعود التي يقطعها على نفسه ثم سرعان ما تتبخر تلك الوعود مثل سحب الدخان. أما الغموض وعدم الشفافية والضبابية حول مستقبل العاملين ومسارهم الوظيفي فحدث ولا حرج؛ وهو سبب منطقي في زيادة قلق أي موظف ورغبته الشديدة في المغادرة إلى مؤسسة أخرى تكون أكثر شفافية وأمان فيما يخص مستقبله الوظيفي. ويجب ألا ننسى أن الجفاف والفقر المالي الذي يُعاني منه معظم العاملين في المؤسسة نتيجة حرمانهم من معظم الحقوق والمزايا المادية والمعنوية؛ في مقابل التخمة المالية لشلة المدير والمنتفعين والمقربين منه والتي تشرحها حساباتهم البنكية المتورمة؛ فهي دون شك مؤشر واضح ودليل قوي على حجم الفساد الإداري والمالي الذي يضرب أطنابه المؤسسة، ودون جدال أن تلك السلوكيات الفاسدة التي تمارسها إدارة أي مؤسسة تعد سببًا قويًا ومنطقيًا في نزوح قوافل الموظفين إلى خارج المؤسسة حتى وإن كانوا قد أفنوا فيها جل أعمارهم. هذا غيض من فيض وما خفي كان أعظم، والذي في القدر تطلعه نزاهة في قادم الأيام!!
لدغة ختام:
سألني أحد الأصدقاء ما هي أغرب صورة للمحسوبية والفساد الإداري والمالي التي يمكن مشاهدتها في بعض المؤسسات؛ فأجبته: هي تشبه تمامًا قيام إدارة مستشفى بمحاباة ومجاملة استشاري عظام أو طبيب أسنان أو حتى أخصائية تجميل؛ للقيام بإجراء عمليات جراحة قلب مفتوح لدعم حساباتهم بمبالغ مالية ضخمة، على حساب صحة وحياة المرضى، وفي نفس الوقت تعطيل جراح القلب عن ممارسة مهامه الأساسية وحرمانه من الاستفادة من الحوافز المالية المتاحة له بحكم طبيعة وأهمية تخصصه، فقال صديقي: سلم لي على الكفاءة والمهنية وكافة (المستشارين)!! والاستشاريين وبخاصة خبيرة التجميل.
• عضو هيئة التدريب في معهد الإدارة العامة.