شكَّلت منطقة الحجاز على مدى عقود مضت أرضًا خصبة للرحّالة والباحثين للتعرف على طبيعتها الجغرافية، ومكانتها الدينية لدى المسلمين، وأثارت القلق لدى المستعمرين خلال الفترة الاستعمارية للدول العربية والإسلامية؛ نتيجة لإصرار الشعوب العربية والإسلامية على التوجه لمكة المكرمة وزيارة المدينة المنورة رغم صعوبة الطرق وطول المسافات، فعملوا على تدريب وتجنيد عدد من الأفراد والضباط للعمل كجواسيس يتدربون على إتقان اللغة العربية والعادات الإسلامية من صلاة وصيام وحج، للتعرف على الأسرار التي تحملها رحلة الحج.
وكان من بين الرحالة الجواسيس الإسباني دومينغو فرانثيسكو باديا، الذي عُرف لاحقًا باسم علي باي العباسي، وهو أول إسباني يدخل مكة المكرمة، والألماني جوهان وايلد وغيرهم، والذين وجدوا في الوصول إلى مكة المكرمة فرصة ليدونوا مشاهداتهم، وينقلوا لحكوماتهم ما يبحثون عنه.
ولم تنحصر الجاسوسية على الأوروبيين وحدهم فقط، شاركهم في هذا الجواسيس الروس ومنهم ضابط المخابرات الروسي عبد العزيز دولشتين الذي امتاز عن غيره بكونه مسلمًا، وحينما تم إرساله إلى الحجاز لجمع المعلومات وإعداد التقارير عن مشاهداته للحج والمسلمين القادمين من شتى بقاع العالم، بين عامي 1898 و1899م، استفاد من وجوده فأدى فريضة الحج، وعمل على إصدار كتابه (كتاب الرحلة السرية للعقيد الروسي عبد العزيز دولشتين إلى الحجاز سنة 1898 ـ 1899م)، وتوفي نتيجة إصابته بالكوليرا، وقيل إنه دفن في وادي فاطمة عام ١٨٤٦م.
ويمتاز كتاب دولشتين أنه ضم قائمة بالحجاج المسلمين (ما عدا حجاج روسيا) خلال الفترة من 16 تموز (يوليو) 1890 إلى أول تموز 1894م، وقائمة السفن التي دخلت مرفأ جدة بالحجاج من 16 تموز (يوليو) 1890 إلى أول تموز 1894م، وقائمة الأدلة والوكلاء (بموجب تقرير القنصل في جدّة) عن سنة 1893م.
وقد وزع الكتاب إلى عدة فصول، فتناول الفصل الأول: سري: تقرير دولتشين عن رحلته إلى الحجاز، فذكر الحدود، وطوبوغرافية السطح، والنباتات والحيوانات، والمناخ، والسكان (خارج المدن)، والتجارة والصناعة عند السكان الرحل، والوضع السياسي في الحجاز، والتقسيمات الإدارية، والقوات المسلحة، وميزانية الحجاز.
وفي الفصل الثاني: تناول دولشتين أساليب وسبل حركة الحج في الحجاز، وخصائص ظروف المواصلات، والقافلة والركب، البدو وعمليات النهب والاعتداء، والمحملان السوري والمصري، وسبل الحجاج في الحجاز، والطريق من جدّة إلى مكة ومنها إلى عرفات، والسبل بين مكة والمدينة المنورة، والطريق بين المدينة المنورة وينبع، ومسيرة المحمل السوري، ومسيرة المحمل المصري (من المدينة المنورة إلى الوجه).
أما الفصل الثالث: فتحدث فيه عن مكة المكرّمة والمدينة المنورة وغيرهما من النقاط الآهلة في الحجاز وأهميتها من حيث الحج، مكة المكرّمة، موقع المدينة، البيوت، المباني العامة، الشوارع، السكان، أشغال سكان مكة، النظام النقدي، تجارة الرقيق، الظروف الصحية في مكة، الماء، حالة البيوت، حالة الشوارع والبازارات، المسلخ، المقبرتان، الظروف المناخية في مكة، المستشفى والصيدليات، السلطات الإدارية والقضائية في المدينة، البريد والبرق، مدينة الطائف، المدينة المنورة، الشوارع، البيوت، سكان المدينة وأشغالهم، الظروف الصحية في المدينة المنورة، الماء، حالة البيوت، حالة الشوارع، المسلخ، المقبرة، الظروف المناخية، المستشفى، المدارس الدينية في المدينة المنورة، المكتبات، سلطات المدينة، البساتين في ضواحي المدينة المنورة، المدينة المنورة بوصفها.
ينبع. موقع المدينة والبيوت، السكان وأشغالهم، الظروف الصحية في ينبع، الظروف المناخية، سلطات المدينة، جدّة.
وفي الفصل الرابع: تحدث عن الحج عمومًا، ما هو الحج، المسجد الكبير في مكة ـ المسجد الحرام ـ، الآيات القرآنية المتعلقة بالحج، شعائر الحج، زيارة الآثار في ضواحي مكة، السجود أمام قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة المنورة، المسجد الكبير ـ المسجد النبوي الشريف ـ في المدينة المنورة، زيارة الآثار الأخرى في ضواحي المدينة المنورة.
وخص دولشتين الفصل الخامس: للحديث عن حج المسلمين الروس، فذكر عدد الحجاج المسلمين الروس سنة 1898م، فذكر أصناف الحجاج، الأسباب الرئيسية التي تحمل على الحج، مقدار المبلغ الضروري لأجل الحج، الاستعدادات للسفر، الحصول على جوازات السفر، الخروج من حدود روسيا القسطنطينية بوصفها نقطة متوسطة هامة، السفر إلى جدّة، النزول في جدّة أو في ينبع، الرأس الأسود، الانتقال إلى مكة، الوصول إلى مكة، والإقامة في مكة قبل الانطلاق إلى عرفات، الانطلاق إلى عرفات، الإقامة في عرفات، المزدلفة، منى، العودة إلى مكة ورحيل الحجاج، الانتقال إلى المدينة المنورة، الإقامة في المدينة المنورة.
الذهاب إلى ينبع، الإقامة في ينبع، المحجر الصحي في الطور، المحجر الصحي في بيروت، زيارة القدس ودمشق والقاهرة، عودة الحجاج إلى روسيا، تأثير الحج في مسلمينا، تأثير حجاجنا في سكان الحجاز، تأثير سائر الأمم الأوروبية.
وخصص دولشتين الفصل السادس: للحديث عن الحجاج القادمين من الدول الأخرى وهم، القشغريون، الفرس، الأتراك، السوريون، المصريون، المغاربة، الأفغان، سكان الهند، الماليزيون، سكان الساحل الشرقي من إفريقيا، سكان الجزيرة العربية.
وفي الفصل السابع: تحدث عن الكوليرا في الحجاز، الأوبئة المعروفة في القرن الحالي، الأسباب التي تُساهم في نشوب واشتداد الأوبئة في الحجاز، طبقة الحجاج المعدمة.
وإن كان دولشتين قد دوَّن في كتابه (الرحلة السرية) بعضًا من الأحداث والمواقف التي كان يتعرض لها الحجاج، فإن عبارة (الذاهب للحج مفقود والعائد منه مولود)، التي كانت تردد على الألسن لكل من أراد أداء فريضة الحج، أشار إليها دولشتين بقوله: “سمعت بين الناس شتى الإشاعات والمخاوف عن هجوم البدو؛ اليوم سلبوا أحد الحُجاج 5 ليرات، وقتلوا آخر وأخذوا 40 ليرة، في حضوري جاء جندي وأبلغ الضابط أن رفيقه الذي راح معه من جدة إلى مكة قتلوه بالحجارة”.
وقبل الختام أقول: إن الحديث عن الجاسوس دولشتين ورحلة حجه التي ضمنها بكتابه (الرحلة السرية) لم يكن حديثًا للاستزادة والتعرف على الماضي بقدر ما هو دعوة للمقارنة بين ما كان يعيشه قاصدو البيت الحرام وزوار مسجد رسوله المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، والجهود التي وفرتها حكومة المملكة العربية السعودية منذ عهد مؤسسها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود – رحمه الله – للحجاج والمعتمرين، والدور الذي لعبه الملك عبد العزيز – رحمه الله – في توفير الأمن والأمان، والتي ترجمها أمير الشعراء بقصيدته المشهورة ضج الحجاز، والتي يقول فيها:
ضَـجَّ الْـحِـجَـازُ وَضَـجَّ الْـبَيْتُ وَالْحَرَمُ
وَاسْـتَـصْـرَخَـتْ رَبَّـهَـا فِـي مَكَّةَ الْأُمَمُ
قَـدْ مَـسَّـهَا فِي حِمَاكَ الضُّرُّ فَاقْضِ لَهَا
خَـلِـيـفَـةَ الـلـهِ أَنْـتَ الـسَّـيِّـدُ الْـحَـكَـمُ