عندما تُعقد أي قمة عربية في المملكة فلا بد لها وأن تنجح، وعندما تعقد أي قمة عربية في المملكة فلا بد وأن تكون القضية الفلسطينية حاضرة، وعندما تعقد أي قمة عربية في المملكة فلا بد وأن تحظى بحضور طاغٍ من قبل القادة والزعماء العرب، فالمملكة العربية السعودية هي قائدة العمل العربي المشترك، مثلما هي رائدة التضامن الإسلامي، والمملكة عبر مسيرتها التاريخية الطويلة في حل القضايا والخلافات العربية تعتبر الشقيقة الكبرى للبلاد العربية، الحريصة على أمن واستقرار ورخاء أشقائها العرب، بما تكرسه من جهد وتضحية في هذا المجال.
وفي الواقع، وبالنظر لما تشكله المملكة من ثقل وفاعلية ومكانة على الصعيدين الإقليمي والدولي تعتبر السعودية المداوي الأكبر لجراح أمتها العربية والإسلامية، والراعي الأكبر لمسيرة آمالها وأحلامها في الوحدة والتقدم والازدهار، وهو ما شكَّل حقيقة راسخة ليس بوسع أحد تجاهلها عبر هذه المعادلة: أي قمة عربية تعقد في المملكة يكتب لها النجاح حتى قبل أن تعقد.
وقد أثبت هذا البلد الطيب أنه مفتاح كافة القضايا العربية، والبلسم الشافي لجراح الأمة كلما نزف فيها جرح، أو ألم بها مصاب.
والواقع أن القمم العربية التي تعقد في المملكة يتم عقدها من خلال تحضير وإعداد جيدين، وبعد أن توفر لها القيادة السعودية كل عوامل النجاح، وهي ظاهرة أصبحت تُشكل حقيقة ملموسة.
ولنا أن نسأل: لماذا اعتبرت قمة جدة العربية العادية في دورتها الثانية والثلاثين مهمة بشكل استثنائي؟
يمكن الإجابة على هذا السؤال بالقول إنها قمة مهمة لعدة أسباب، فهي تعقد في مرحلة جديدة من الرفض العربي للانصياع للقوى الخارجية والنزوع نحو استقلالية القرار العربي، وتغليب المصلحة العربية العُليا على ما دونها من المصالح، ورفض أي تدخل خارجي في الشؤون العربية، وهو التوجه الجديد والحاسم الذي أصبحت تقوده المملكة مؤخرًا، وعبر عنه سموه في كلمته في افتتاح القمة بقوله: “لن نسمح بتحول منطقتنا إلى منطقة صراعات” في إشارة إلى أنه حان الوقت للقوى الخارجية التي ظلت تعبث لردح من الزمان بأمن المنطقة واستقرارها، وتؤجج فيها النزاعات والصراعات أن ترحل، وأن تكف عن لعب دورها اللاأخلاقي.
وربما أن مشاركة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في القمة العربية كضيف شرف بناء على طلبه شكّل مفاجأة، لكنه منح الفرصة للتعبير عن رأيه، فيما عبرت المملكة عن استعدادها للوساطة بين أوكرانيا وروسيا.
وقد عقدت القمة وسط أجواء انفتاح عربي غير مسبوق مع تركيا وإيران، إضافة إلى الولايات المتحدة والصين وروسيا، وقد التئمت بحضور ومشاركة سوريا ممثلة برئيسها بشار الأسد بعد اثنى عشر عامًا من الغياب، وهو ما فتح صفحة جديدة في دفتر التضامن العربي. كما مثلت القمة بارقة أمل لحل الأزمة اللبنانية المتفاقمة، والعمل من أجل تسريع انتخاب رئيس لبناني جديد، والأهم من ذلك كله هو الآمال التي عقدت عليها في معالجة الوضع السوداني المتفجر في ضوء المباحثات السودانية – السودانية في جدة، والتي تكللت بتوقيع طرفي النزاع على إعلان جدة المؤمل أن يقود إلى وقف دائم لإطلاق النار وفق ما جاء في كلمة سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء سمو الأمير محمد بن سلمان في افتتاح القمة، وأيضًا النظر في تطورات القضية الفلسطينية التي اعتبرها سمو ولي العهد في كلمته قضية العرب والمسلمين المحورية، والتي تأتي على رأس أولويات المملكة، من أجل البحث في آليات وقف العدوان الإسرائيلي المتواصل على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتكثيف العمل العربي المشترك في اتجاه إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على أراضي الخامس من حزيران 1967 بعاصمتها القدس الشرقية وفق المبادرة العربية للسلام وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، وهما المحوران الأكثر أهمية في القمة، وذلك إضافة إلى الملفين اليمني والليبي.
وجاء إعلان جدة حول القضية الفلسطينية وسوريا ولبنان وليبيا واليمن تتويجًا للجهود التي قادتها المملكة لإنجاح القمة تحقيقًا لأهدافها في تجديد الآمال العربية، وتفعيل العمل العربي المشترك.
يمكن اعتبار قمة جدة – استنادًا إلى ما سبق – دفعة قوية للتضامن العربي، ومحاولة جادة لإسماع العالم الصوت العربي موقفًا وقرارًا وتحديًا، لا سيما وأن هذا الصوت العربي الجماعي يصدر من السعودية إحدى عواصم القرار الإقليمي والدولي.