محمد بربر
تمرّد يوسف إدريس على كل ما اعتبره قيدًا، مستفيدًا من طبيعته الثائرة فنجده يجسّد قضايا الوطن وهموم الناس في شخوصه، يقدم أطروحاته في النقد والمدارس الأدبية وعلاقة الأديب بالسلطة والتعبير عن فعل الكتابة، ونجح في أن يكون من أبرز كتاب القصة والرواية والمسرحية، وترجمت أعماله إلى 24 لغة.
يقول الدكتور يوسف إدريس، وهو يتحدث من تجربته الخاصة: “اكتشفت من واقع تجربتي الشخصية أن الكلمة المؤمنة تخرج من قلم الكاتب مخلوقة، مكونة تكنيكيًا تكوينًا تامًّا، وتظل حيّة. وإلا فإنها تكون مجرد تشكيل لغوي. والحقيقة أن مشكلتنا في العالم العربي ليست مشكلة فن ولا ثقافة.. وإنما هي مشكلة إخلاص. كذلك الكاتب، فسواء أعجب النقاد أم لم يعجبهم، وسواء أكان نتاجه جديدًا أم قديمًا.. هذا لا يهم. ليقل ما يشعر به. إنه الصدق، وليرمِ صورة الناقد من ذهنه ومن مخيلته”.
اللغة لا تهبط على أبنائها
لم يجد إدريس أزمة في أن يحطّم المألوف، خصوصًا وأنه يعتقد أن الأديب فوق السلطة بصنوفها المختلفة، ويرفض القوالب الأيديولوجية وينحاز إلى سلطة المبدع، حتى أنه قدّم رؤيته الخاصة باللغة العربية، في مقال نشرته صحيفة الجمهورية، في 13 مايو من العام 1960 يقول فيه: “اللغة أي لغة لا تهبط على أبنائها من عالم الغيب ولا تتفجر لهم من باطن الأرض، ولكنهم هم الذين يخلقونها ويطوّرونها ويبدّلون فيها ويغيّرون، والقواميس والمعاجم التي وضعت للغتنا أثبتت ألفاظها لا على أساس أصلها وفصلها، ولكن على أساس أن العرب استعملوها لأداء هذا المعنى أو ذاك”.
يضيف يوسف إدريس، في مقاله أن “اللغة العربية هي فقط اللغة التي يستعملها الشعب العربي بصرف النظر عن منشأ مفرداتها وعن التطور الذي يصيبها. ولو كانت اللغة العربية هي فقط اللغة التي وردت على ألسنة أجدادنا الأقدمين، لكان معنى هذا أننا نتكلم اليوم لغة أخرى”.
شهادة طه حسين
الدفقة الإبداعية عند يوسف إدريس كانت حاضرة بسلطتها الخاصة، ذات أجواء تشبه صاحبها، فنجده في صراع مع شيطان الكتابة، قد يكتب على قائمة الطعام أثناء جلوسه مع أحد أصدقائه لتناول الغداء، أو يسجّل أفكاره على علبة السجائر، وقال عنه الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي، عقب نشر مجموعته القصصية الأولى “أرخص الليالي”: “أجد فيه من المتعة والقوة ودقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة وبراعة الأداء مثل ما وجدت في كتابه الأول “أرخص ليالي” على تعمق للحياة وفقه لدقائقها وتسجيل صارم لما يحدث فيها وجعلته يشعر بأنه ولد نجما منذ اللحظة الأولى”.
وأثرى يوسف إدريس، الأدب العربى بالعديد من الأعمال الروائية والقصصية والمسرحية، إلى جانب مقالاته المتعددة فى الصحف المصرية، لكن صاحب “الحرام” أيضا قدمت عنه العديد من الكتب والدراسات، وأجريت معه العديد من الحوارات التى تركت لتكون مراجع للباحثين والنقاد والمؤرخين عن الأديب الكبير الذى طالما رشح اسمه للحصول على جائزة نوبل قبل أن يحصدها صاحب “الحرافيش” نجيب محفوظ.
تقول نسمة يوسف إدريس، في حوار صحفي: “والدي كان له موقف من أى شيء، ومن الطبيعى أن يكون له موقف من السلطة، وعندما تكون السلطة في بدايتها رشيدة يكون مؤيدا لها، ولكن عندما تغيرها القوة والنفوذ، ينقلب عليها، ومن المعروف عنه أنه لم يكن يضع السلطة فى اهتمامه، لأنه كان وطنيا يضع دائما نصب عينيه مصلحة الوطن فى آرائه وأفكاره”.
وتضيف “كانت مشكلته أنه لا يريح نفسه أبدا، وكان يرى أن الراحة الوحيدة فى الموت، وأن الإنسان لابد أن يكون له موقف”.
أجواء القرية في حياة يوسف إدريس
وتعتبر فترة صباه التى قضاها فى القرية لها الأثر الأكبر نحو تشكيل شخصيته حيث غرست فيه مبادئ وقيم الريف من إخلاص وصدق، تشير ابنته إلى أنه حكى لها أنه كان يسير يوميا ما يقرب من 12 كيلومترا فى رحلته ذهابا وإيابا إلى المدرسة وسط المزارع والخضرة والهواء الطلق، وساعدت هذه الأجواء فى تفتح عقله ونمو مداركه واتساعها وأصبحت تلك الرحلة اليومية فرصة للتفكير والتأمل والتدبر وبداية لكتابات وصفية معبرة عن واقع جميل يحياه وظهرت موهبته فى الكتابة والإبداع.
وبدأ يرسم بيديه ما يدور بخاطره، وغرس والداه داخله التقاليد الأصيلة التى ورثاها وأصبح الفتى مصقولاً بتربية ونشأة ولا أروع من ذلك حتى شب وصار فنانا ومفكرا قبل أن يلتحق بالجامعة التى كان لها أثر هى الأخرى فى نفسه بعد أن درس الطب الذى وصفه بأنه أكمل له معرفة جانب هام جدا ألا وهو نفس وطبيعة الإنسان.
وكان يعبر يوسف إدريس فى مقالاته عن مواقفه السياسية بشكل واضح، كأنه اتخذ الصراحة منهجا فى الحياة حتى بعيدا عن الكتابة، ومن المواقف المعروفة عنه، ما حدث فى معرض الكتاب عام 1991، حين وقف موجها حديثه لمبارك عندما رأى الوزراء يحتلون المقاعد الأمامية، بينما الكتاب والمثقفون فى المقاعد الخلفية، قائلا: “نحن نراك سيادة الرئيس مرة كل عام، وهؤلاء الوزراء يرونك كل أسبوع أو كل يوم، وفى يومنا السنوى يأتون ويجلسون فى الصفوف الأولى، أرجو فى العام المقبل أن يجلسوا فى الخلف ويتركوا مقاعدنا، فابتسم مبارك وقال له “حاضر يا دكتور يوسف”.
تمرده على السلطة اللغوية
وبعيدًا عن مواقفه، فقد تمرد على السلطة اللغوية فلم يكن يسلم نفسه للغة صنعها غيره، كما كان له موقفه الخاص من النقد، يقول يوسف إدريس: “الحركة النقدية التي رافقت القصة القصيرة في العالم العربي فقد كانت وما زالت متخلفة جدًّا. وتخلفها في الحقيقة لا يقتصر على القصة القصيرة وحسب، وإنما يمتد ليشمل مجال الرواية والشعر”.
يوضح “لقد كان من المفروض أن تكون القصة القصيرة أكثر الأشكال الأوربية إثارة للاهتمام النقدي. إذ لا يمكن لها أن تستكمل ملامحها المحلية الصميمية ومن ثم تحقق عالميتها إلا بحركة نقدية تواكبها: توضح وتفسِّر وتشرح وتتحمس وتلغي وتجيز. لكن نقادنا -بكل أسف- ما زالوا يتناولون القضايا الأدبية التي تشغل النقاد الغربيين، كقضية الرمز وتصحيح العمل الفني الذي ما هو إلا عمل يتناول الموضوع من خلال تيار شعوري”.
وأكد يوسف إدريس أن القصة القصيرة بحاجة إلى نقد عربي بمنطق عربي، بإحساس عربي. ويستطرد حديثه: “فليفهم الناقد التراث الغربي ما استطاع ذهنه الهضم، وليتمثل التراث الشعبي والأدب العربي القديم ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وإنما عليه حين يتصدّى لنقد القصة القصيرة أن ينطلق من منطق عربي نابع من وجدان عربي. أن يرى القصة بالذات، من داخلها لا من خارجها. نحن في الحقيقة نحتاج إلى نقد يتناول العمل الأدبي من داخله لا من خارجه”.
فلسفة اختيار القصة القصيرة
كانت لدى يوسف إدريس فلسفته الخاصة، فتجده يرد على سؤال بشأن موضوع الكتابة، موضحًا أن “المشكلة ليست في ماذا نكتب.. وإنما هي عندما نكتب قصة قصيرة مثلًا، وأنا أتحدث عن القصة القصيرة لأنني أكتبها.. عندما أكتب فإنني لا أفكر أنني سأكتب قصة قصيرة، وإنما أنفصل عن كل شعور من هذا القبيل لأغوص في عالم آخر أقوم بصنعه. الحقيقة أن الكاتب عندما يكتب لا يعي تجربة كتابة قصة قصيرة. والأمر الوحيد الذي يشد انتباهك، ويذهلك عن كل شيء فيما عداه، هو هذا الكون الصغير الذي تخلقه. فالمخلوق هو الذي يشدّ انتباهك وليست صفتك كخالق. وأنا أستغرب المثل الذي ذكرته. فأنا عايز أكتب، لكن لكتابة إيه؟.. إن الموضوع هو الأساس.. وهو الجانب الوحيد وليست إرادة الكتابة”.
وشرح الدكتور يوسف إدريس أسباب اختيار القصة القصيرة بالقول: “اخترتها لأني أستطيع بالقصة القصيرة أن أصغّر بحرا في قطرة، وأن أمرر جملا من ثقب إبرة، أستطيع عمل معجزات بالقصة القصيرة، إنني كالحاوي الذي يملك حبلا طوله نصف متر، ولكنه يستطيع أن يحيط به الكون الذي يريد. القصة القصيرة طريقتي في التفكير ووسيلتي لفهم نفسي، والإطار الذي أرى العالم من خلاله، إنه الإطار الذي وجدني ولم أجده”.
وقال أيضا “إن القصة القصيرة هي أصعب شكل أدبي وأسهل شكل أدبي في وقت واحد، إنه شكل سهل لا بد أن يمارسه كل شخص ولو في جانبه الشفوي ولكنه فن صعب، يحتاج إلى قدرة للأخذ بتلابيب لحظة نفسية خاطفة، والتعبير عنها في كلمات. لقد اخترع بيكاسو ذات مرة طريقة لرسم لوحة فوسفورية تختفي بعد دقيقة. هذه الدقيقة هي القصة القصيرة هي اقتناصي لحظة كشف خارقة”.
لم يفشل يوسف إدريس مرةً في الرد على من يتحدثون عن إعجابه بكتابته، يقول: “أنا أعرف قيمته وأن لا أحد يستطيع أن يكتب هكذا أبدا، وفى العالم كله، ولا تناقض بين التواضع والغرور هنا، الاثنان متكاملان ولولا إحساسى بأن أحدا غيرى لا يستطيع كتابة هذا لراجعته مائة بالمائة هذا صحيح ، فأنا أحس أنه لو تنطح الإنس والجن والملائكة كى يكتبوا كلمة واحدة مما أكتبه لما استطاعوا، ولذلك فأنا مقتنع بما أكتب ولا أغار من أحد ولا أحسد أحدًا، ولست طامعا فى جائزة نوبل برغم أنى رُشحت لها أربع مرات، أنا شيخ الطريقة الإدريسية فى الكتابة”.
وكتب فتحى غانم فى مقاله عن يوسف إدريس يقول: ” وكانت آخر مواجهاته فى حضورى فى مارس عام 1990 فى بغداد بمناسبة ندوة عن «الأدب والحرب» كنت أدير إحدى الندوات يشارك فيها أساتذة جامعيون ونقاد وأدباء من العالم العربى، وقبل نهاية موعد الندوة، دخل يوسف إدريس القاعة وطلب الكلام ورحبت بمشاركته، فأمسك بالميكرفون وانطلق يهاجم الإشادة بالحرب، ينكر أن يعترف الأدباء – فى بغداد أو غير بغداد – بأدب يمجد الحرب والقتال، فالأدب لا يكون إلا للحياة والإنسانية، ورفض الحروب والتدمير والتخريب وسفك الدماء”.