بقلم الروائي والقاص: فكري داود
خفيفةٌ كيمامة، تتحرك قدماها تحت خصرها النحيل، مُنْهِيَةً الصعود إلى سطح البيت، بعد خطوتين فوق السطح، تستقبل درج السلم الخشبي، المطروح على جدار مقعدنا الوحيد، المبني بالطوب (اللَّبِن)، والمسقوف بعروق الخشب، المغطاة بسِد البوص وحِزَم القش.
تقبض كفُّها البيضاء الناعمة، على مِقبض قفص الجريد، مفتوح الباب، والمفروش بالقش، خلف ظهرها يتأرجح شعرها الفاحم، في جديلة واحدة غليظة، وبحركة مُدَرَّبَة، تُلقى – حريصة – فوق سطح المقعد بالقفص…
شمسُ الصباح على استحياء تطل، كشاهد دائم على الوقائع.
حول سطوح الحارة، تحوم حبّات اليمام، تضرب الهواء بأجنحتها طوبيَّة اللون، تروح هناك وتجيء، قبل أن تحط، محاولة التقاط قليل من أرز الشعير، المعلق لا يزال بأعواد القش.
داخل القفص مفتوح الباب، تبسط أمي قطعة من قماش، تنثرٌ فوقها، خليط من حبوب القمح، والأذرة، والفول الحصى.
تأخذ دائرة اليمام، الحَائم حول السطوح، في الضيق شيئا فشيئا، لتصبح دارُنا، ومقعدُنا، وقفصُ الجريد تحديدا، مركزا للدائرة، من خلال الفتحات بين الجريد، تلتقط عيون الطائر الحب، يأخذه التلفُّت حتى يملؤه الاطمئنان، فيطرد الهواء من تحت أجنحته، ليحط قرب القفص، يدور حوله قليلا، يُفاجأ ببابه المفتوح، تسرع أبدانه بالولوج، فرادى، ومثنى، وثلاث، و…، تنخلّّق للتو مبارة لاإرادية، في التقاط القوت، تتناثر الحبوب بين فراش القش، وحول قطعة القماش، ينهمك البعض في محاولات فاشلة، لاستخلاص ما تناثر…
حول القفص وفوقه يكثر التقافز، وبداخله يرتاح القليل…
قبل غطسة الشمس، تنفض أمي يدها من طهي الطعام، تُعاود أقدامُها سريعاً، الوصول إلى السطح الكبير، و في هدوء ترتقي دَرَجَ السلم الخشبي، المطروح فوق جدار المقعد، حرصها أكيد، ألاَّ يبدو رأسها للطائر الغرير، إلا على نحو مفاجئ، في وجهها يضحك القرص الأحمر، الموشك على الرحيل، من اليمامات يلوز بالفرار ما يلوز، وداخل القفص يثبت ما يثبت، يأخذه التخبط، عاجزا عن اتخاذ أي قرار، تسارع أمي بإغلاق باب القفص، تتصاعد دقات قلبها فرحة، مطمئنة على عشاء يوم جديد…، تمتد كفها لتقبض من جديد، على مقبض قفصها، وبالكف الأخرى تمسك بكتفي النحيلة، لتتم هبوطها للسلم في أمان.
…
متعلقٌ قلبي لا يزال، بذلك المشهد القديم.
كما تتعلق عيناي – الآن -، بمشهد حديث، لبدن يتمدد منذ سنوات، فوق فراش أبيض، وشفتين جافتين، تتمتمان بتمتمات الحمد، فيما تلوح من تحت غطاء الرأس، خصلة من شعر شمعي.
وبين المشهدين، تتواثب خواطري متأرجحة، بين سكون طال، لقدمين تقبع الجنة تحتهما، وبين إقلاعٍ مٌُبْهَم لليمام، عن الحوم حول السطوح.
