البحث العلمي هو جسر الإنسانية نحو المستقبل المشرق، فهو يُنير دروب المعرفة ويمهَّد طريق الابتكار والتقدم لمواجهة التحديات البشرية التي تتجدد كل يوم.
وفي ضوء الوضع الراهن والتطورات الطبية والمتسارعة، يجب أن نتذكر القصص الأولى التي تعلمنا منها الممارسة الحديثة المبنية على دراسات محكمة باشتراطات عالية قد يضيق بها ذرعًا الباحث المُتعجل غير المتمرس.
فالكثير من الأطباء والباحثين يصفون الإجراءات البحثية واللجان المعنية لاعتماد البحوث وإجازتها بالتعقيد والصعوبة، ويسعون للحصول على الموافقات المتعجلة، وقد يتورط بعضهم في بعض التجاوزات الأخلاقية..
كل تلك الإجراءات وإن كانت صارمة تهدف لحماية المجتمعات من عواقب الخطأ البحثي الذي لا تحمد عقباه.
في عالم البحوث الطبية، تعتبر تجربة توسكيجي للزهري إحدى أشهر قصص الأخلاق الطبية والمعايير البحثية الملتوية. تمَّت هذه التجربة على مدار أربعين عامًا بين عامي 1932 و1972، واستهدفت 600 رجل أمريكي من أصل إفريقي في توسكيجي، ألاباما.
تمت التجربة بإشراف الوكالة الأمريكية للخدمات الصحية العامة وجامعة توسكيجي؛ حيث توصل الفريق البحثي إلى تشخيص المشاركين بأنهم يُعانون من مرض الزهري، دون أن يوفروا لهم العلاج المناسب، فضلًا عن عدم إبلاغهم بمعلومات دقيقة حول مرضهم. وبدلًا من ذلك، أكدت السلطات الصحية (كذبًا) للمشاركين أنهم يتلقون علاجًا مجانيًا لمشاكل صحية عامة مختلفة.
وبالرغم من اكتشاف البنسلين كعلاج فعّال للزهري في عام 1947، إلا أن المسؤولين عن التجربة رفضوا تقديم العلاج للمشاركين، وكذلك منعهم من الوصول إليه من خلال برامج العلاج الأخرى؛ بهدف استمرار ملاحظة مراحل المرض بدون علاج مهما كانت التكلفة!
واستمر هذا الأمر حتى أصبحت التجربة موضع جدل واسع، وتم إنهاؤها في عام 1972 بعد تسريب معلوماتها إلى الصحافة.
عواقب هذه التجربة كانت وخيمة على المشاركين وعائلاتهم؛ حيث توفي ما لا يقل عن 28 من المشاركين مباشرة بسبب الزهري، بينما توفي 100 آخرون بسبب مضاعفات المرض. كما أصيب عدد لا يحصى من الأطفال بمشاكل صحية خطيرة وتشوهات خلقية؛ نتيجة للإصابة بالزهري من أمهاتهم المصابة.
تأثيرات هذه التجربة لم تقتصر على المشاركين وعائلاتهم فحسب، بل امتدت إلى ثقة المجتمع الأمريكي من أصل إفريقي في النظام الصحي الأمريكي، وقد أثارت التجربة شعورًا عميقًا بالخيانة والظلم، مما أدى إلى انخفاض مستويات المشاركة بين الأمريكيين من أصل إفريقي في الأبحاث الطبية وتجارب العلاج.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا العمل أسهم وبشكل كبير في إحداث تغييرات جذرية في معايير البحث الطبي والأخلاقيات. ففي عام 1974، أُنشئ مكتب حماية البحوث البشرية في الولايات المتحدة، والذي يعمل الآن تحت مسمى “مكتب حماية البحوث المتعلقة بالإنسان”
(OHRP).
وقد أسفرت هذه التغييرات عن تطبيق مبادئ إيجابية أكثر في البحوث الطبية، مثل: الحصول على موافقة علمية وشرح التجربة للمشاركين بكل تفاصيلها، وتعويض المشاركين ماديًا ومعنويًا.
وبسبب الأثر الاجتماعي المؤلم لهذه التجربة، قدم الرئيس الأمريكي بيل كلينتون عام 1997 اعتذارًا رسميًا عن تجربة توسكيجي، وأكد على أهمية التعلم من هذه القصة المظلمة، وضمان عدم تكرارها.
كانت تجربة مروعة بكل المقاييس ولكن البشر تعلموا من ذلك الألم تعزيز الأخلاقيات الطبية ومنع تكرار مثل هذه الأحداث، ومن أجل حماية المشاركين في التجارب الطبية وضمان حقوقهم، والحرص على مقاربة الصواب في نتائج ما نبحث، نأمل أن تستمر هذه التغييرات والعمل على تحديثها خصوصًا في ظل تطور الذكاء الاصطناعي الذي قد يحدث منعطفات صعبة في تاريخ الإنسان والمعرفة والقيم، محليًا، يشهد النظام الصحي السعودي تحولات كبيرة في سبيل تحسين جودة الرعاية الصحية والارتقاء بالخدمات المقدمة، وتعكف المملكة على تعزيز دور البحث العلمي والابتكار في هذا السياق؛ وذلك من خلال التركيز على دعم ثقافة البحث وتمويل المشروعات البحثية والمراكز المتخصصة.
ويأتي في مقدمة هذه الجهود دور هيئة الغذاء والدواء السعودية، التي تسعى لتطوير قطاع الدواء وضمان جودة الأدوية المتداولة في المملكة. كما تساهم الهيئة في تعزيز ثقافة البحث والابتكار من خلال تبني المعايير الدولية المقبولة والآمنة، والتنسيق مع المراكز البحثية العالمية.
وبالتوازي تلعب المراكز البحثية الرئيسية في المملكة دورًا حيويًا في هذا التحول؛ حيث تُقدم فرصًا للباحثين في المجالات الصحية المتنوعة، وتطبيق تقنيات حديثة ومبتكرة؛ وبذلك، تمضي المملكة قدمًا في طريقها نحو تحقيق أهداف رؤية 2030، وتعزيز مكانتها كقوة رائدة في مجال البحث العلمي والابتكار الصحي.