هناك فرق بين النظر للنظافةِ باعتبارها (مسؤولية) جهاتٍ معيّنةٍ في الدولةِ أو في المؤسسةِ، وبين النظر إليها باعتبارها (سلوكًا يوميًا) ينبغي أن يلتزم به كلُّ فردٍ.
وبحسبِ الثقافة الشائعة في مجتمعٍ ما تكون الممارساتُ في هذا المجالِ مُرْضِيةً أو مَرَضية.
فحين ينظر المجتمع للنظافة على أنها سلوك شخصيّ إلزاميّ تتحوّلُ إلى (عادة)، ويخف الجهد المبذول لإزالةِ القاذورات والنفايات، وحين ينظر إليها على أنها (مسؤولية) تتحول المسألة إلى ملاحقةٍ لا تنتهي للقاذوراتِ ونصبح في مثل قاعدةِ:
متى يبلغ البنيان يومًا تمامه .. إذا كنتَ تبنيه وغيرك يهدمُ!
حين كنتُ في جامعة ويلز ببريطانيا كان مبنى الفيزياء (physics building) أكبر مباني الجامعة، يتكون من خمسة طوابق، وفيه المكتبة المركزية للعلوم، إضافة إلى القاعات الدراسية وخَلَواتِ طلبةِ الدراسات العليا التي كنا نسمّيها تظرُّفًا (الزنزانة). هذا المبنى الضخم لم يكن فيه سوى عامل نظافةٍ واحد!!، كانت مهمته الأساسية مسح السبورات؛ لأن شاغلي المبنى ومستخدميه لم يكونوا يتركون وراءهم ما يستوجب التنظيف.
هذا نموذجٌ عشتُهُ بنفسي، ولاحظتُ فيه أثر (ثقافة النظافة) والتعامل معها باعتبارها سلوكًا شخصيًا يوميًا.
ولا يمكن أن أنسى أنني ذات يوم استعرتُ كتابًا؛ فكتبت ملاحظة صغيرة بقلم الرصاص في غلافه الخلفيّ، فلما رأتْها المشرفةُ زجرتني زجرًا شديدًا، وقالت لي: هذا الكتاب بمثابة وجهك، هل ترضى أن (تشخمط) على وجهك! وكان درسًا لا أنساه.
هذه الفكرة التي تنظرُ إلى النظافة باعتبارها أولًا مسؤوليةً شخصيةً ليست فكرةً غربية، بل ليست حتى فكرةً إنسانيةً! إنها مقتضى شرعيٌّ جاءَ به الإسلامُ.
فالوضوءُ قبل كل صلاةٍ مسلكُ نظافةٍ شخصيّ، وكذلك اشتراط طهارة الثوب والمكان، ومشروعية غسل اليدين قبل الأكل، وغسلهما بعد الاستيقاظ من النوم، والنهي عن قضاء الحاجة في مواقع الظلّ. وكثيرٌ من آداب الشرع إذا أنت تأملتها وجدتَها تعزز جانب المسؤولية الشخصية في النظافة، وهل أكثر من أن تكون إزاحة الأذى عن الطريق شعبة من شعب الإيمان؟!
إنّ الفكرة هنا ليست في (إلغاء) مسؤولية الجهات المعنية بقضية النظافة، فالمسؤوليات لا تُلغى، ولكنّ ما أقصده هو أن النظافة مالم تتحول إلى سلوك شخصي يمارسُهُ كل فردٍ فإن المجتمع سيظلُّ يعاني مهما بُذلتْ من جهود.
0