سألت أحد شعراء العرضة الجنوبية: لم لا أجد في قصائدك رثاء رغم وفاة والدك وبعض أصدقائك وأخيرًا والدتك؟!
فقال: صدقني لم أجد الكلمات التي تُناسب شدة أحزاني ولوعة الفقد، وأخشى لو قلت قصيدة ألا تقوم مقام الحدث، وتعبَّر عمّا في خاطري من الحزن والانكسار، والشعور بالأسى والخذلان!.
تركته حينها دون اقتناع بقوله فيما عدا معرفتي أن قصائد العرضة الجنوبية فرائحية وفخر، وليست قصائد حزن وانكسار!.
إلا أن قصائد الرثاء من أجمل قصائد الشعر العربي وأصدقها؛ فرثاء المهلهل لأخيه كليب التي يقول فيها:
أبت عيناي بعدك أن تكفا
كأن غضا القتاد لها شفار
ورثاء الخنساء لأخيها صخر في عدة قصائد منها قولها:
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
ورثاء جرير لزوجته وقوله:
لولا الحياء لهاجني استعبار
ولزرت قبرك والحبيب يزار
ورثاء ابن الرومي لولده ومنها قوله:
بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي
فجودا فقد أودى نظيركما عندي
ناهيك عن رثاء حسان -رضي الله عنه- لسيد الخلق -صلى الله عليه وآله وسلم- والذي لم يصب المسلمون بفقد مثله ..
ثم تدور الأيام فأكتشف أن فقد شخص عزيز عليك يصيب ذهنك أحيانًا بالتبلد وعدم القدرة على التفكير، وإيجاد الكلمات التي يمكن أن تعبَّر عن كبر الفقد، ويشفي ما يجيش في الصدر من الحزن والأسى، ولا تستطيع إلا التمتمة بكلام غير مرتب ولا مفهوم وكلمات مبهمة لا ترابط بينها.
نعم هذا ما حصل عندما بلغني خبر وفاة أخينا الأكبر ونسيبي (سعيد بن عبوش -رحمه الله-) .. وعندما شاهدته مسجى في مغسلة الأموات، مرت بذهني سنوات العمر التي عشناها، فقد تربينا في بيت واحد، كنت وعبد الرزاق ثنائي الشقاوة، وكان لنا نعم الأخ والصديق والمربي لا يبخل علينا بتوجيه ولا نصيحة يراها في مصلحتنا ..
أثناء رعينا للغنم أو شغلنا في المزارع كنا نخشى أن يفاجئنا، ونحن لاهون فقد كانت هيبته في نفوسنا كبيرة ..
غادر الديرة للبحث عن الرزق قبلنا بسنوات وفرقتنا ظروف الحياة وانشغال كل منّا في مسار خاص به لكن لم يزل الود والمحبة ورابطة الأخوة تشدنا لبعضنا، وكانت رسائله تصلنا باستمرار وفيها النصائح، والحث على الاهتمام بالدراسة، وبذل الجهد للحصول على النجاح والتفوق..
وكان من قدر الله أن اجتمعنا في منطقة واحدة للعمل، واستمرت اجتماعاتنا وتواصلنا مع بعض ..
جاء الموت الذي يفرق بين الأحبة.. إنه القدر الذي يعلم الجميع بحتمية حدوثه للجميع، ولا نملك إلا الدعاء له بالرحمة والمغفرة، وأن يجمعنا به ووالدينا، ومن فقدنا في جنات النعيم.
والحمد لله رب العالمين.
– الدمام