قبلَ نحوِ ألفٍ وثلاثِماِئَةِ سنةٍ، كانَ بمكةَ رجلٌ من العُباد يُسمى: عبدَالرحيمِ بنَ أنسٍ الرَّماديِّ، أرادَ هذا الرجلُ أن يُغادِرَ مكةَ إلى اليمنِ، فبلغَ الخبَرُ صدِيقَهُ التابعيَّ الجليلَ الحَسَنَ البصريَّ -رَحمَهما اللهُ-، فانزَعَجَ وكتبَ إلى صاحبه يقول له: “وإني والله كرهتُ ذلك، وغَمَّني، واستوحَشْتُ مِنْهُ وَحْشَةً شديدةً، إذْ أرادَ الشَّيطانُ أنْ يُزعِجَكَ مِنْ حَرَمِ اللهِ، ويَسْتَزِلَّكَ، فيا عجبًا مِنْ عقلِكَ إذْ نويتَ ذلكَ في نفسِكَ بَعْدَ أنْ جَعَلَكَ اللهُ مِنْ أَهْلِهِ”.
وبعد سلسلة طويلة من الآثارِ التي ساقها الحسن عن فضائلِ مكةَ وأَجْرِ الـمُقَام بها قال لصاحبه: “فاثْبُتْ مكانَكَ، ولا تَبْرَحْ، وإنَّكَ إنْ تَكْسَبْ مَكْسبًا يساوي فِلْسَيْن من حلالٍ بها، كان خيرًا وأفضلَ من أن تكسبَ في غيرِها ألفَيْ درهم”.
هذه النصيحة البصريَّةُ الثمينةُ تكشِفُ كم هو عظيمٌ أن يحظى الإنسانُ بشرفِ جوارِ هذا البيتِ الحرامِ، ليس بينه وبين جمالِ الطوافِ بالكعبةِ، ولذةِ الصلاةِ في الصَّحْنِ، وحلاوةِ المناجاةِ في الملتزَمِ، إلا أنْ يخطوَ خطواتٍ، أو يمشيَ بضعَ كيلومترات!
وكيف لا يشرُفُ الإنسانُ، وهو في جوارِ بيت شَرُفَ بالانتساب لرب العزة والجلالة:
(وطهر بيتي)، أولِ بيتٍ وُضِعَ للناسِ؟
هذا البيتُ الحرام الذي بوَّأَ اللهُ لإبراهيمَ -عليه السلامُ- مكانَهُ، فكانَ في الأرضِ محاذيًا للبيتِ المعمورِ في السماءِ، هذا في الأرضِ مُطَهَّرٌ للطائفين والعاكفين والركعِ السجودِ من البشرِ، وذلك في السماءِ يُصلِّي فيه كلَّ يومٍ سبعون ألفًا من الملائكة، لا يعودون إليه أبدًا!!
وقد جاءَ في الحديث عند مسلمٍ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلمَ- رأى إبراهيمَ -عليه السلامُ- في السماءِ السابعةِ مُسنِدًا ظهرَهُ إلى البيتِ المعمورِ، وقد كانتْ هذه الخصوصيةُ له -عليه الصلاةُ والسلامُ- جزاءً وِفاقًا؛ لأنَّه باني الكعبةِ الأرضيةِ، فجعل الله من جزائهِ أن يتكئَ على الكعبةِ السماوية! [ذَكَر هذا التعليل ابن كثيرٍ -رحمه الله- في تفسيره].
فانظر شرفَ هذه الكعبةَ كيفَ اختُصَّ بانِيْها بمجاورةِ البيتِ المعمورِ! لقد رفَعَها في الأرضِ فرفَعَهُ الله في السماء!
فأيُّ رِفعةٍ لهذا البيتِ وأيُّ مقامٍ وأيُّ تشريف وتعظيم؟
0