إيوان مكة

(حُرُم.. ؟؟)

الأشهر الحرم .. في كل عام تأتي التبريكات والتوجيهات بحلول شهر ذي القعدة، وأيضًا بحلول شهر رجب ويذكر بأنها أشهر حرم، وربما يود الناس لو عرفوا أكثر عن ماهيتها وتوصيفها.
الأشهر هي: ذو القعدة وذو الحجة، ومحرم ورجب.
وقيل إن الثلاثة المتواليات؛ كونها تمر بفترة الحج والمفرد “رجب” لإتاحة الفرصة للعرب للقدوم لمكة لأداء العمرة في منتصف العام آمنين مطمئنين.
السؤال: ما ماهية هذه الشهور؟ وما وجه الاختصاص فيها وما المطلوب خلالها من المسلم؟
أولًا: هي حرم لأن الإسلام حرم فيها القتال والمقاتلة.
ثانيًا: المعاصي فيها يعظم إثمها عن القدر العادي، والحسنات كذلك يزيد أجرها وثوابها.
والخالق العظيم يوجه بألا (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)، وفيهن تعود على جميع أشهر العام لكن هذه الأربع لها مزيد اختصاص وتخصيص.
وغالبًا ما تقفز التساؤلات عن الحكمة في تخصيص بعض الأمور من عند الله، والجواب أن الحكمة هو أعلم بها سبحانه، والإله يجتبي ويخصص ويختار كما يشاء فالاصطفاء لأي شيء من ضمن مشيئته المطلقة سبحانه وحرمته قد يبديها لخلقه، وقد يخفيها عنهم، وهو بذلك حكيم وعلى ذلك قدير.
يقول الإمام الطبري: «إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووِزْرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حالٍ عظيمًا، ولكن الله يعظِّم من أمره ما شاء»، وقال: «إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه؛ اصطفى من الملائكة رسُلًا، ومن الناس رسلًا، واصطفى من الكلام ذكرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضانَ والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلةَ القدر، فعظِّموا ما عظم الله، فإنما تعظم الأمور بما عظَّمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل».
فلا تسأل وتحتار للصفايا التي اختارها الله فالشأن له والأمر له وأنت عليك القبول والطاعة، وليس في كثير تشكك في هذه الأمور ذكاء وتفكير خارج الصندوق بل قد يقود ذلك لإنكار وتخاذل فلننتبه.
والظلم ينقسم لعدة أنواع، فقد يظلم الإنسان نفسه بخطايا وذنوب في علاقته بربه، كتقصيره في العبادات والصلاة والمفروضات، وقد يظلم نفسه بارتكاب المحرمات والممنوعات من كل نمط ولون، سواء دينيًا أو اجتماعيًا أو نفسيًا.
وهناك الظلم بين الإنسان والناس سواء ماديًا أو معنويًا كأكل مالهم أو النيل من أعراضهم أو إيذائهم بأي شكل كان.
هذه فرصتك أن تتخلص من أرتال الذنوب وجبال المعاصي في هذه الشهور، خفّف يا بن آدم فالأحمال ثقيلة، وظهرك أضعف من أن يحملها.
والحكمة التي تعنينا ونشتقها من هذا التخصيص هو أنه موسم خير، تخفيض لذنوبك وكسب لجوائز من حسنات، كم نركض لعروض التسويق وتلهث أنفاسنا لمهرجانات البيع، وهذا موسم ليس كمثله، طاعتك تضاعف فأكثِر منها صدقةً وصلاةً ودعاءً وذكرًا وشكرًا، ومعصيتك تضاعف فقلل منها وابتعد عنها.
إن كنت ساحرًا، مغتابًا، قاذفًا، آكلًا لمال أحدهم، ظالمًا بأي شكل، اسحب عليك مكابح التوقف فتُب وانتهِ الآن، وإن كنت لم تذق حلاوة صلاة الليل قبلًا؛ فقم الليلة وانهل من عذب الخلوة مع خالقك، وعمّر قلبك بجميل ظن، واهدم خرِب بيوت الحقد والحسد والشر في قلبك، تسعون يومًا ثم ثلاثون منفصلة هي فرصة لنُعيد تأهيل الإنسان فينا، ونرمم التالف والمتهالك والآيل للسقوط من جدر صلاحنا.
وإن كان التحريم الأساسي في هذه الشهور هو تحريم القتال والقتل حتى قيل إن الرجل يقابل قاتل أبيه ولا يؤذه ولا ينتقم منه، وما أجمل هذا التهذيب وإحكام السيطرة على الذات، أعظم من ألف دورة في برمجة الذات، ليتنا نستثمر غايات المواسم في ديننا العظيم.
وقد جعل الله التنبيه من المعاصي والإكثار من الطاعات ذلك لأن القتال كما أصنفه ليس فقط قتل الناس وإراقة الدم، بل كل أذى وكل إهانة وكل كسر نفس، وكل إدخال هم وكل إيذاء حتى لو لنفسك أيضًا، إنما هو وجه من وجوه القتل والإجرام، وبعض الأذى أشد من القتل بل القتل منه أرحم نعوذ بالله من كليهما.
وربّ مسلم يكبح جماح غضبه، ويمنع نفسه في هذه الأربع الرائعات؛ فتهدأ ثائرة وجدانه، ويترك الانتقام أو الشر أبدًا بعد ذلك.
اثنا عشر شهرًا هي عدة التاريخ والزمن، فيها شهر عروس له السطوة والحظوة كملك يختال بينها امتلاءً وتميزًا هو شهر رمضان، وأربع يسرن حوله قبله وبعده كحاشية من وزراء لهم من الهيبة ما لهم، ومن تخصيص الاحترام والتقدير.
غادرنا ملك الشهور لهذا العام، وهاهم وزراؤه وحاشيته يقبلون الليلة؛ فاغتنم أيها الحصيف مواطن الخير، واحذر مرابع الدوامات التي تبتلع حسناتك، هذه الأربع أرض خصبة لمن شاء الحرث والزرع بانتظار جميل الحصا.

د. فاطمة عاشور

أستاذ مساعد بجامعة الملك عبد العزيز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى