“لا يُقاس الوفاء بما تراه أمام عينك، بل بما يحدث وراء ظهرك”.. حكمة قديمة ولكنها أصابت كبد الحقيقة، حيث يواجه الإنسان في رحلة الحياة النقيضين : الوفاء والغدر، ولو بنسب متفاوتة، ولكنهما صفتان موجودتان في البشر، الأولى صفة حميدة تشي بمعدن الإنسان وجوهره النبيل، والثانية صفة مذمومة تدل على تردي النفس الإنسانية إلى هاوية سحيقة.
والوفاء – لغةً- ضد الغَدْر، فيقال وَفَىّ بعهده، وأَوْفَى إذا أتمه ولم ينقض حفظه.
والوفاء – اصطلاحاً- هو حفظ للعهود والوعود، وأداء للأمانات، واعتراف بالجميل، وصيانة للمودة والمحبة.
يقول عوف الكلبي: “آفة المروءة خلف الموعد”، فيما يقول الأصمعي: “إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ووفاء عهده فانظر إلى حنينه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه وبكائه على ما مضى من زمانه”
والأمر الجدير بالذكر – إبتداءً- أن الوفاء صفة من صفات الله – عز وجل- حيث يشير – سبحانه وتعالى- إلى ذلك في العديد من الآيات البينات، ومنها قوله تعالى:
– “ومن أوفى بعهده من الله” (التوبة: 111).
– “إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ” (آل عمران: 9).
– “وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” (الروم: 6).
– “لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ” (الزمر: 20).
كذلك، فإن الوفاء من صفات المرسلين -عليهم الصلاة والسلام- إذ يقول الحق – تبارك وتعالى-:
– “وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا” (مريم: 54، 55).
– “أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى” (النجم: 36 – 41).
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ، أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ – أي النبي صلى الله عليه وسلم – فَزَعَمْتَ: “أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ، وَالصِّدْقِ، وَالعَفَافِ، وَالوَفَاءِ بِالعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ”، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ.
وبالطبع، فإن الوفاء من سمات المؤمنين المتقين، حيث يقول الحق – تبارك وتعالى-:
– “وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ” (البقرة: 177).
– “وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ” (المؤمنون: 8).
والشاهد أن الله تعالى قد أمر بالوفاء وحث عليه، إذ قال سبحانه: “وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” (الأنعام: 152).
ولأن الوفاء خُلق لا يقدره إلّا القليلون، قال تعالى: “وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ” (الأعراف: 103)، وهنا يظهر نفيض الوفاء (أي الغدر)، فيقول الله – تعالى-: “وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ” (النحل: 91)، حيث أمر الله عباده في هذه الآية بالوفاء بالعهود ونهاهم عن نقضها، والأمر يفيد الوجوب. قال – تعالى-: “وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ” (الأنفال: 58)، فيخاطب الله نبيه – صلى الله عليه وسلم- أنه لو خاف خيانة من قوم بينهم وبين الرسول عهد، فله أن يخبرهم أنه لا عهد بينهم وبينه، كما يدل على أنه لو لم يخف منهم خيانة فلا يجوز له نقض العهد الذي بينهم. قال – تعالى-: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا” (النساء: 58)، وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان من حقوق الله -عز وجل- على عباده؛ كالصلوات والزكاة، والصيام والكفارات وغيرها، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع.
وورد في السنة النبوية: ” قالَ اللَّهُ -عز وجل-: ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بي ثُمَّ غَدَر، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثَمَنَهُ، ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفَى منه ولم يُعطِه أجرَه” (رواه البخاري)، والحديث فيه زيادة إثم لمن ذُكروا، وأن الله خصيمهم يوم القيامة لأنهم حلفوا باسم الله وعاهدوا باسمه، ثم نقضوا عهدهم.
ولعل من أهم أسباب تحريم الغدر في الإسلام، آثره السلبي على الفرد والمجتمع؛ فهو من خصال النفاق حيث يفكك أواصر المحبة والمودة، وينشر عدم الثقة بين الناس الأفراد.
وقد تبرأ الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- من أهل الغدر لأنه جاء بمنهاج يحث على الوفاء مع الخالق والمخلوق والصديق وحتى مع العدو والدواب. وفي الحديث الشريف، أكد رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- في قوله: “أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَر” (رواه البخاري)، والمقصود من هذا الحديث أن هذه خصال تشبه خصال النفاق، لأن المنافق يبطن خلاف ما يظهر.
وقد ورد في ديوان العرب (الشعر) الكثير من الأبيات التي تجرم الغدر وأهله، ومنها قول الأعور الشّنّيّ (من شعراء صدر الإسلام واشُتهر بهحائه): (لا تأمننّ امرئٍ خان امرءاً أبداً// إنّ من الناس ذا وجهين خوّانا). فيما يقول عنترة بن شداد: (دَهَتني صُروفُ الدَهرِ وَاِنتَشَبَ الغَدرُ// وَمَن ذا الَّذي في الناسِ يَصفو لَهُ الدَهرُ.. وَكَم طَرَقَتني نَكبَةٌ بَعدَ نَكبَةٍ // فَفَرَّجتُها عَنّي وَما مَسَّني ضُرُّ). بينما يقول ابن الرومي: (تَطامَنُ حتى تطمئنَّ قلوبُنا// وتغضبُ من مزحِ الرياح اللواعبِ.. وأَجرافُها رهْنٌ بكلِّ خيانةٍ// وغَدْرٍ ففيها كُلُّ عَيْبٍ لِعائبِ).
وعلى المستوى الاجتماعي، بتنا نشاهد الكثير من المواقف الحياتية التي تشي بتغلغل صفة الغدر المذمومة، كأن يقدم الإنسان لأخية كل وسائل الدعم والمساعدة، وبدلاً من أن يقابل الإحسان بالإحسان نجده يغدر بمن قدم له المساعدة ويطعنه في ظهره بدم بارد؟!.
والغريب أن هؤلاء الغدّارين حين يقابلونك تعلو وجوههم الابتسامة – وكأنهم أعز الأحباب-، ولكن فجأة تكتشف أنهم يحملون في أياديهم سكين الغدر التي تضربك من الخلف كـ “القاتل المبتسم”؟!.
والأغرب أن هؤلاء الغدّارين يعتقدون – زوراً وبهتاناً – أنهم يملكون أرزاق البشر، ويرمون الناس بما ليس فيهم ويشهدون الزور – والعياذ بالله- من أجل مصالح دنيوية زائلة وزائفة دون وازع من ضمير أو خوف من عقاب المولى – تعالى- القادر بفضله وقدرته على إظهار الحق ولو بعد حين.
ويذكرنا هؤلاء الغدّارين فاقدي الضمير بالقصة التاريخية الشهيرة المعروفة بـ “جزاء سنمار”، ومفادها أن “سنمار” رجل رومي بنى قصر الخورنق بظهر الكوفة للنعمان بن إمرؤ القيس كي يستضيف فيه ابن ملك الفرس، الذي أرسله أبوه إلى الحيرة، والتي اشتهرت بطيب هوائها، وذلك لينشأ بين العرب ويتعلم الفروسية. وعندما أتم بناءه، وقف سنمار والنعمان على سطح القصر، فقال له النعمان: هل هناك قصر مثل هذا القصر؟، فأجاب كلا، ثم قال: هل هناك بنّاء غيرك يستطيع أن يبني مثل هذا القصر؟، قال: كلا، ثم قال سنمار مفتخراً: ألا تعلم أيها الأمير أن هذا القصر يرتكز على حجر واحد، وإذا أزيل هذا الحجر فإن القصر سينهدم، فقال النعمان: وهل غيرك يعلم موضع هذا الحجر؟، قال: كلا، وهنا فجأةً ألقاه النعمان عن سطح القصر، فخر صريعاً، وقد فعل ذلك لئلا يبني مثل هذا القصر لغيره، فضربت العرب به المثل بمن يجزى بالإحسان الإساءة.
ويمكن تلخيص “حالة الغدر” التي رويناها بتلك العبارة الدالة والتي تقول: ” أحقر الناس خلقاً: إذا شبع منه أنكر فضلك، وأفشى سرك، وأنكر عشرتك، وقال عنك ما ليس فيك”..
وأخيراً.. قد يمنع الله عنك قدراً سيئاً على يد أشخاص يظنوا أنهم منعوا عنك شيئًا جميلاً، فتأتي ألطاف الله بك على أيديهم من حيث لا يعلمون، وتنسج لك في الخفاء اقداراً أجمل.. وما دمت مؤمناً بأن أمورك بيد الله وحده فلا تخاف ظلماً ولا قهراً. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.