الإنسان ليس الكائن الوحيد على هذه الأرض، هناك مئات الآلاف من الكائنات، التي قد نعلم عن بعض منها، ومع هذا، فإن الضرر الذي يحدثُّه الإنسان أكثر خطرًا على كل المخلوقات، وعلى نفسه أولًا. من هذا المنطلق يجب أن نعرف، ما البيئة؟ وما التوازن البيئي؟ وما دور الفرد والمجتمع والدول في الحفاظ عليها؟ لكي تظل عجلة الحياة تسير بطبيعتها التي جبلها الله تعالى عليها.
البيئة ليست جبالًا وصحاريَ ومرتفعات وأنهارًا ووديانًا، حرارة وأمطارًا، رياحًا وإعصارًا وكائنات فقط، البيئة كل ما يحيط بنا، وكل الكائنات جزء من هذه المنظومة البيئية المعقدة، وكل كائن يقتات من الآخر عبر سلسلة غذائية متشعبة، تنظمها قوانين طبيعية دقيقة، وأي خلل في هذه السلسة يُعيد من تشكيل مشاهد غير مألوفة، وظواهر غريبة، وأمراض مُستحدثة، وفناء كائنات وظهور أخرى.
والتوازن البيئي يقصد به انسجام الأنظمة البيئية المتنوعة، في تناغم وتكامل صحي مرغوب ومنشود، بين كل المكونات البيئية (الحية وغير الحية) بما يضمن بقاؤها واستمرار نشاطها، بين الإنسان الذي يأتي في المحور الأول وبين كل الحيوانات والنباتات والكائنات بشكل عام، حتى الحفاظ على التركيب الطبوغرافي، والجريان المائي وحتى أعماق البحار والمحيطات. إن التوازن المنشود بين كل الكائنات يهدف إلى ضمان بقائها وتكاثرها وتطورها ونشاطها، ويتطلب جهودًا جبارة وقيودًا مُشددة عبر قوانين نافذة محلية وإقليمية ودولية.
يجب أولًا أن نؤمن أن هناك علاقة بين الغطاء الأخضر وكمية الأمطار، بين عدد النباتات وعدد الحشرات المفيدة، وعدد الطيور، بين التصحر ونسبة الكربون المنبعثة، بين الأعداء الحيوية وبين الأمراض والآفات النباتية، بين عدد الغابات ونسبة الأُكسجين، فإن قضيت على حشرة صغيرة، تظن أنها مؤثرة، فأنت دمرت جُزءًا من المنظومة المتكاملة، فكل حشرة تقتات على الأخرى، وحين تظن أنك انتصرت عليها ستظهر آفات وحشرات أخرى، أشد ضراوة وأكثر تأثيرًا على النبات والبيئة والصحة وعلى الإنسان.
الجميع يعرف أن التربة موطن ومَهد النباتات والتي تمدُّه بالطاقة اللازمة لنموه ونشاطه وتكاثره، فتستهلكها الحيوانات والحشرات والديدان، وكل الأنواع التي تقتات على النبات، وهكذا وكل كائن له أفراد يقتاتُ عليهم عبر سلسلة متناهية الدقة، فالطائر مثلًا يتناول تلك الحشرات والديدان، ويتناول حبوب المحاصيل إن لم يجد غيرها، وأي خلل في هذه السلسلة يحدث خللًا في التوازن البيئي.
وللأسف الإنسان هو من يزيد من حدة الاختلالات البيئية، بسبب أنشطته المتهورة والمختلفة، المشروعة وغير المشروعة، من قطع الأشجار، والنمو السكاني المفرط في أماكن دون غيرها، والمخلفات التي يتركها، والإسراف في الاحتياجات الغذائية والمائية، والصناعات المختلفة، وزيادة انبعاث ثاني أكسيد الكربون، والغازات الدفيئة عمومًا…إلخ.
إن التغيير المناخي والاحتباس الحراري وارتفاع حرارة الأرض، وزيادة مُعدل ذوبان الجليد، وانخفاض منسوب المياه، والتصحر، وتدهور التربة، والجفاف، وتملُح الأراضي الزراعية، وانقراض الكثير من الكائنات البرية والبحرية، كلها تنتج بسبب فقدان التوازن البيئي، والاستنفاد الجائر لمكونات الطبيعة، بشكل عشوائي واستغلالي وانتهازي من قبل الإنسان، ومازالت عجلة المخاطر تتمدد، مما يؤثر على حياة هذا الجيل والأجيال المتلاحقة، وإذا كانت هناك دول مسؤولة عن النسبة الأكبر من انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون طبقًا لإحصائيات 2020، لتأتي الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 25 في المائة تقريبًا، ثم الصين 14 في المائة، وروسيا 7 في المائة، وألمانيا 5.5 في المائة، وبريطانيا 4.6 في المائة، اليابان 4 في المائة (حيث تشكل تلك الدول ما نسبته أكثر من 60 في المائة)، وهنا سؤال يطرح نفسه إلى متى هذا الاستهتار من قبل القوى العظمى…؟!
إلا أن المملكة العربية السعودية بلد الإسلام والإنسانية، التي لا تُمثل سوى 1.4% من النسبة العالمية من انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون، إلا أنها ومع هذا استشعرت مُؤخرًا أهمية البيئة، ولها جهود جيدة من خلال إعادة تأهيل الكثير من المواقع والغابات والمحميات في عدة مناطق، وتوطين الكثير من الأشجار الحراجية، وأنشأت الكثير من الهيئات والمشاريع الـمُهتمة بالبيئة والحياة الفطرية، والزراعة الصحراوية، وتطوير الأنظمة المستدامة، والتنمية الريفية، وزيادة عدد المتنزهات الطبيعية؛ لأن المملكة تتميز بمكونات بيئية مُختلفة ومتباينة، والتي لا تجد دولة بنفس مُميزاتها، من حيث الأنظمة البيئية من الحياة الفطرية، والتي تشكل ثُلثي مساحة المملكة، ضمن عدة نطاقات جغرافية صحراوية، من الأوروبي والآسيوي والإفريقي. والتي تندرج تحتها أنظمة بيئية مختلفة؛ وعلى رأسها وهو الأكثر تنوعًا الأنظمة البيئية الجبلية: والتي تتميز بمعدلات مُرتفعة من الأمطار، وتوجد فيها الأشجار والنباتات البرية، والأعشاب الطبية والعطرية، وكثير من الحيوانات البرية، وانتشار المناحل فيها، والكثير من المتنزهات، وتتميز بقدرتها في الحفاظ على بناء التربة، وهناك أنشطة مُتميزة للحفاظ على هذا النظام البيئي.
ثم يأتي النظام البيئي الصحراوي: وهو يمثل المناطق التي يقلُّ بها مُعدل الأمطار عن 200مل/سنة، وهي النسبة الأكبر، وأغلبها مناطق رملية، تتميز بانخفاض الطاقة الإنتاجية من النباتات الرعوية، وتذبذب كمية الأمطار فيها ونسب توزيعها.
بعد ذلك يأتي النظام البيئي البحري: والسعودية تمتلك ساحلًا طويلًا على الخليج العربي، وآخر على البحر الأحمر، يمتدُّ ويبلغ طوله في حدود 2000 كيلومتر، يُعاني من إجهاد بيئي، ويحتاج لمزيد من تنمية الشُعب والحواجز المرجانية وتنظيم عملية الصيد البحري، وتنمية الأعشاب والنباتات والحشائش البحرية في المناطق المتاخمة والمناطق الضحلة.
وفي آخر إحصائية حول النباتات الفطرية في المملكة فقد بلغ عددها ألفين ومائتين وسبعة وأربعين نوعًا نباتيًا، ضمن 142 فصيلة و837 جنسًا. منها 600 نوع مهددة بالانقراض، كما تضم 499 نوعًا من الطيور المسجلة منها “الأثيوبية والآسيوية والقطبية”؛ حيث ثبت أن في المملكة مسارات رئيسة لمعظم أنواع الطيور أثناء هجرتها، لتميز موقعها الجغرافي المتوسط بين القارات الثلاث الرئيسة.
كما تضم العديد من الأنواع الحيوانية الثديية، والتي بلغ عددها ستة وثمانين نوعًا من الثدييات، واثنين وعشرين نوعًا من القوارض، وثمانية وعشرين نوعًا من الخفافيش، واثني عشر نوعًا من آكلات اللحوم، ونوعًا واحدًا من الرئيسيات (القرود) وأربعة أنواع من ذوي الأظلاف. وهناك عدد وتنوع مأهول من الزواحف والبرمائيات وغيرها. وأيضًا البيئة البحرية: فهي متنوعة حيث يوجد أكثر من ألف ومائتين وثمانين نوعًا من الأحياء البحرية، والأسماك والقشريات والفقاريات البحرية.
وقد حرصت الحكومة السعودية مع مطلع العام 1990 ميلادية على سنّ العديد من القوانين المنظمة والمحافظة على الأنظمة البيئية، التي تهدف للحفاظ على المناطق المحمية، وتنظم صيد الحيوانات والطيور البرية والاتجار بها وبمنتجاتها، وفي نفس المساق أنشأت الكثير من المشاريع، وعملت الكثير من الدراسات عبر المراكز البحثية والجامعات والهيئات المتعددة، وكذلك التعاون مع المنظمات الدولية والإقليمية. وحديثًا وانسجامًا مع رؤية 2030 تم رعاية الكثير من المبادرات المتعددة للحفاظ على الطبيعة والبيئة، كمبادرة السعودية الخضراء، والشرق الأوسط الأخضر، ومشروع الرياض الخضراء، وكذلك التفاعل مع أسبوع البيئة، ويوم الشجرة.
ومع هذا هناك الكثير من التحديات للحدِّ من انبعاث الغازات الدفيئة، وتحييد الكربون، وزيادة عدد الأشجار والغابات، ومعالجة مياه الآبار، والحدِّ من تلوث التربة والمياه والهواء، والتخلص أو تحجيم مخلفات الزحف الإسمنتي، ومواجهة التصحر وزحف الرمال، وإعادة تدوير ومعالجة النفايات والمخلفات بتعدد أنواعها وأشكالها، والبحث عن الطاقة الحيوية النظيفة، والتحول إلى مصادر الطاقة من الموارد المتجددة؛ كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وتعميمها على كافة المرافق الحكومية، وتعزيز استخدام الطاقة الخضراء، وتحلية مياه البحار، وتخزين مياه الأمطار، وإنتاج الأسمدة العضوية، ومعالجة الغازات المنبعثة. إن السعودية بحاجة إلى زراعة 26 مليار شجرة لتحييد الكربون، لذا إن الحفاظ على الغطاء النباتي، وتعزيز مفهوم وعدد المحميات الطبيعية، والحدِّ من التوسع العمراني، على حساب الأراضي الزراعية، وتجريم الصيد الجائر للحيوانات، وزراعة المزيد من مصدات الرياح والسياجات حول المدن من الزحف الرملي، والانتقال الفعلي للنقل الجماعي وتزهيد أسعاره، ومعالجة المخلفات البشرية بتعدد أنواعها واشكالها، بشكل مدروس، سيعزز مفهوم البيئة المثالية المتزنة، التي تتلافى الاختلالات البيئية، والعوامل المؤثرة عليها، والتي ستسهم في خلق توازن بيئي مناسب، للحفاظ على وجود وبقاء الإنسان وكافة الكائنات.
لذا يجب أن تتم إدارة الموارد الطبيعية بشيء من المنطق، بمبدأ لا ضرر ولا ضرار، لا إفراط ولا تفريط، ويجب أن تشجع الحكومات حول العالم حول ذلك، من التضخم السكاني وتكدس الأنشطة البشرية في مناطق دون غيرها، بما يضمن بقاء الكائنات الحية. وسنّ المزيد من القوانين للحفاظ على الحياة الفطرية، والمسطحات المائية والمسطحات الخضراء ومصادر المياه عمومًا، والمحميات الطبيعية، وتفعيل مبدأ تدوير المواد والمخلفات المختلفة للحفاظ على الأنظمة البيئية، وتحقيق التوازن البيئي المنشود.
*باحث – كلية علوم الأغذية والزراعة
جامعة الملك سعود