بم تحدثيني أيُّتها الطرقات ؟ أسمعُ تمتماتٍ هادئة ..
تُراها عن ذكرياتٍ ؟ أم ضحكاتٍ ؟ أم حكاياتٍ ؟
تناثرت وقت تسابق البنات وضحكاتهن تسابق أقدامهن على صعود ثلاث درجات في باص المدرسة !
يتنقل ذاك الباص بين محطات ومحطات فكم جمع من الطالبات ، وكم أستمع لتلك السواليف – والتي غالباً لاتجد فيها ما يسمى حكايات – غير إنها طفولة وبراءة وانطلاقة نحو الحياة ، في ثنايا ثرثرة مختلطة بوصف الدرس والمعلمة وقصاصات من ورق ٍملون ، وصرخات وشهقات مع إهتزاز الباص بتوقف مفاجئ ليلتقط لؤلؤة في محطة الانتظار على ذات الموعد وفي يدها كتاب تقلب صفحاته وكأنّها تقلّب صفحات عمرها الأجمل ، يسير بنا نحو عوالم ٍأخرى فيها من المتعة واللذّة ما يجعلني أبكيها طويلاً ، وصديقاتي هناك !!!!
يسير باصنا الأصفر المقلّم بالأسود وننظرُ من نافذته إلى كل العالم من حولنا البشر الذين كانوا يرافقونا في تلك الإشراقات دون أن يعلموا بأنّهم أصدقاء الصباحات المعتادة كل يوم ، ونسخر بعفويةٍ من بعض الشخوص وتتعالى ضحكاتنا وكأنّنا نكتب للجمال لوحة الطفولة والذكريات ، ويعبر بنا باصنا ، ونحن بقاماتنا الصغيرة نحاول الوصول للجزء الغير مظلل من زجاج النوافذ ، نمعن النظر طويلاً في كل ماحولنا من جامد أو متحرك ، عصافير ومنازل وبشر وسيارات وأشجار خضراء تتخللها أشعة الشمس الساطعة ، والتي تسطع في وجوهُنا النّظرة والتي لا تعرف معنى للصعوبات ، ولا العقبات ، ولم تشغل بالكدح والتحديات فنحن أصغر من هذه المصطلحات بل ليست في قاموس طفولتنا أصلاً ، يسير بنا باصنا عبر طرق رئيسة معبّدة وأخرى ريفية ساحرة يداعبنا المطر وقطراته النديّة ونرسم منها ابتسامات وخيالات على زجاج نوافذنا .. والضباب يغطّينا بجماله .. تلك القطرات التي تشابه دموعنا فرحاً ، ونحن نرسمها في كراسات الفنيّة التي حملت ألوانها أحلامنا وآمالنا كما كتبت معلمة التعبير في دفتري الأنيق بعدما شاهدتْ ما كتبته عن رحلتنا عبر باصنا الصباحي فوضعت الكثير من النجمات والكثير من عبارات الثناء التي مازلتُ أحتفظ بها في ذاكرتي والتي دعتني لأكمل مقالتي تلك بروح الشغف والطفولة .. تحلّق المشاهد الساحرة أمامنا فنكون كالزهرات في فازةٍ مذهبةٍ أناقةً ورشاقةً وفصاحةً ونجابةً ولهجةً تمتعنا وتمتع من حولنا كنّا نراها في ابتساماتهم التي لا يخفونها فقد كانت أكبر من تعابيرنا وأكبر من أجسادنا النحيلة وأحلامنا العظيمة تلك الطفولة التي يرافقها المرور كحرسِ شرف ٍلوفد التشريفات في بعض المسارات ، هذا ماكنتُ أعتقده وأظنّه ويمرُّ في مخيلتي ، وأنا أركب الباص في أول يوم أمتطيت صهوته ، حينها شعرتُ لوهلة إنّي السندريلا الجميلة في عربتها والأحصنة البيضاء تسير بها في تحليق باذخ ٍلتصل قصر الأمير ، هل تعلمون ماهو قصري ؟!
إنّها مدرستي الإبتدائية الثالثة عشر بحي الخالدية بأبها ..
وحين تجتمع تلك الباصات في نهاية المشوار الصباحي المشرق وإطلالته البهيّة .. سائق الباص ” أبو عايض ” يفتح لنا ويقف بجانبه وننزلُ بحبٍّ وشغف ٍالطالبة تلو الأخرى وبين تلك الطالبات أرى نفسي تلك السندريلا لا تكاد تسعني الدنيا برمتها .. يقف السائق كل يوم ليصرخ علينا حين ننسى فسحتنا أو زمزمية الماء أو كراسة واجب أو كتاب ، ونضحك بخبث الطفولة التي لا ينسى ، بل إننا نتعمّد أحيانا عمل هذه الحكاية وننزلُ بسرعة لنضحك أكثر وأكثر !
ندخل مدرستنا متلهفاتٍ لبعضنا ونجتمع في فناء مدرستي ، وربما أُتم بعض واجباتي والتي صعب علي إتمامها في المنزل ، وأنجزتها قبل أن يبدأ الطابور وتصرخ إحدى المعلمات : يالله يالله الطابور يا بنات ” وتبدأ الإذاعة الصباحية وما أجمل أصوات الطالبات !
أثناء الفسحة الدراسية تناديني الخالة (حليمة ) مع صديقتي ابنتها لتهدينا بعضاً من الحلوى والحب ..
ما أجمل تلك المراحل ! وما أجمل ذكريات مدرستي !
وعند نهاية اليوم الدراسي نستمع للحارس وهو ينادي باص حي شمسان ، باص حي الوردتين ،باص حي الخالدية ، باص حي القرى وباص حي كذا وكذا …،
ونطير كالفراشات نحو تلك الباصات في رحلة العودة للمنازل فالسندريلا على موعد آخر تكتب رحلتها عبر فضاء الطفولة والبياض والطهر كما يعبر باص مدرستنا طريقه بين تلك الأحياء التي تحمل الكثير من الروايات التي قد ترى ضوء الجمال ذات مساء .. قبل العودة لمنازلنا لابد من جولة في دكان العم ” محمد التيهاني ” والذي نشتري منه بسكويت ( لاش ) بغلافه الزهري اللامع ، وحلاوى النظارات الزاهية والحبّات الملونة والتي نرى فيها طفولتنا الرائعة .. !!!!!
وتعود الإجابة تحمل تساؤلات عدّة لتلك الاستفهامات المطروحة على ذكرياتنا ..
أهذا ماتودين أن تحدثيني عنه أيُّتها الطرقات ؟
والأميرة سندريلا تكتب السطر الأخير .