يُعد الحرم المكي نقطة المركز للعالم أجمع، بل يُمثل وجهة البوصلة التي تستهوي أفئدة المسلمين قاطبة، وإليها تشرئب أعناقهم في صلواتهم ومناجاتهم، وهو إذ ذاك بوابة الأرض للسماء .. إنه أول بيت وضع للناس؛ البيت العتيق، الكعبة المشرفة التي جعلها الله مثابة للناس وأمنًا، إنها الشعيرة الإسلامية المقدسة التي أحاطها الله بحرم آمن يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقًا ونفعًا ببركات دعاء أبو الأنبياء؛ إبراهيم الخليل – عليه السلام -، وفضل الله وإكرامه للبيت ومن يعظمه!!
ولأنه بيت الله المُعظم، الذي تهوى إليه الأفئدة وتسكن إليه الأرواح؛ راحة طمأنينة، ذكرًا وشكرًا، الأمر الذي جعله موضع القلب من الجسد؛ عناية واهتمامًا متصدرًا أولويات حكومتنا الرشيدة منذ عهد المؤسس – طيب الله ثراه – إذ أمر آنذاك – غفر الله له – في عام: (1344هـ – 1925) بتشكيل إدارة خاصة سُميت مجلس إدارة الحرم كان من مهامها القيام بإدارة شؤون المسجد الحرام ومراقبة صيانته وخدمته، وقد تم على إثر ذلك تنفيذ ترميمات وصيانة شاملة للحرم المكي بعد أن اعتراه التقادم والتهدم، فكانت تلك الأعمال تُمثل البصمة السعودية التي كانت بمثابة حجر الأساس للتوسعات اللاحقة، والتي مهّدت لمرحلة البناء والتشييد للرواق والتوسعة السعودية الأولى خلال الفترة من عام: (1375هـ – 1955) إلى أن تم الانتهاء من أعمالها في العام: (1396هـ – 1976)، ولأن الحرم المكي يُمثل رمزية إسلامية مقدسة؛ فقد نال اهتمام ملوك هذه الدولة باعتباره شرفًا متوارثًا من منطلق ديني قيمي؛ استشعارًا بالمسؤولية خصها الله لولاة أمر المملكة العربية السعودية؛ رعاية وعناية، ولقد ترجم ذلك الملك فهد – غفر الله له – حين تقلد شرف مسمى (خادم الحرمين الشريفين) في إشارة واضحة لتعظيم الحرمين، وما تحظى به من قدسية ومكانة عالية في نفوس حكامنا الأمجاد!!
وكـحال حكامنا عندما يلمسون الحاجة للتوسعة؛ فقد أمر الملك فهد – رحمه الله – في العام: (1409- 1988) بالبدء بأعمال التوسعة السعودية الثانية لتضاف إلى سابقاتها، والتي أضفت جمالية واستيعابًا أكبر بطراز معماري حديث ومتفرد!!
ومع تزايد أعداد الحجاج والمعتمرين ومردتادي الحرم الشريف؛ فقد انطلقت في عهد الملك عبدالله – رحمه الله- في العام: (1429 – 2008) مشاريع التوسعة الثالثة لتضيف بعُدًا آخر من العمارة والتشييد الإسلامي ليُشكل معلمًا متميزًا يعود بالنفع والتيسير لاستيعاب النمو المضطرد سنة بعد أخرى!!
ولأننا في عصر النهضة الحديثة المنبثقة من (رؤية المملكة 2030) عهد الحزم والعزم، العصر الذهبي المتوج بالإنجازات، التنمية الشاملة، المكلل بالنجاحات في كل الميادين؛ ازدهارًا ونماءً، وانطلاقًا من مستهدفات الرؤية الثاقبة بمضاعفة أعداد الحجاج والمعتمرين، فقد كان للحرمين النصيب الأوفر بل في مقدمة اهتمام القائد العظيم؛ خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز – حفظه الله ورعاه – وسمو ولي عهده الأمين؛ الأمير المُلهم محمد بن سلمان – حفظه الله ورعاه – حيث توالت أعمال التشييد والعمران للحرم، والتي كان من نتاجها تدشين الرواق السعودي وتطويره بصورة إبداعية مبتكرة؛ ليكون واجهة مشرقة للعمارة السعودية الحديثة؛ إذ يتكون من أربعة أدوار تستوعب قرابة نصف مليون ما بين طائف ومصلٍ؛ لتخفيف الضغط والتكدس وضمان الانسيابية في صحن المطاف!!
ولأن أعمال التوسعة المكية صُممت بطراز هندسي فني خلاق جمع بين الزخارف والنقوش الإسلامية مما جعل منه لؤلؤة فريدة يشع منه نور الهدى، كما يعكس جمال الشكل ودقة التنفيذ ليظهر بأشكال وتطعيمات مبهرة ومتناسقة ذات طابع متجدد؛ جمالًا وجلالًا، وبما يتناسب وقدسية المكان وعظمة المكانة!!
ولأن المشروع طبعة سعودية خالصةً فكرًا وتنفيذًا؛ فقد استحق بجدارة أن يحمل مسمى (الرواق السعودي) الذي يُعد شرفًا لهذه الدولة ووسام فخر وسؤدد لحكامها وقادتها الذين نذروا أنفسهم خدمةً للإسلام والمسلمين، فكان الإنجاز تتويجًا لجهد مضاعف وفكر متقد وعمل دؤوب مخلص وإنفاق ملياري سخي؛ إيمانًا واحتسابًا، ليحظى وفد الرحمن بالراحة والرفاهية وأداء مناسكهم بكل أمان وطمانينة!!
قراءة في “الرواق السعودي”:
⁃ لم يشهد التاريخ عنايةً واهتمامًا بالحرمين كما حظيت بها في العهد السعودي، لذلك حشدت الإمكانات المادية والبشرية لإنشاء مشاريع جبارة تُعد الأولى في عالم الحضارة الحديثة من حيث المساحة والتكلفة والشكل الجمالي، والمتانة والاستيعاب البشري!
⁃ يُعـــــد الحــــرمان الشريفان أولوية لدى ملوك هذه البلاد لذلك فإنه لا يخلو عهد من عهود ملوكنا دون إضافة توسعة أو عمل جليل لخدمة الحرمين باعتبار ذلك واجبًا تحتمه المسؤولية الدينية!
⁃ الرواق التاريخي الذي كانت بداياته الأولى في عهد الخلفاء الراشدين؛ عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان -رضي الله عنهم-، مرورًا بالعصور المتوالية – لم يشكل أهمية كما هو الآن، كونه محدود المساحة والبنيان، ولربما كان أشبه بسورٍ حماية يرسم حدود المسجد الحرام أو يحد من الزحف العمراني أو ليمنح مزيدًا من الهيبة للكعبة المشرفة، في حين أن طاقاته الاستيعابية لا تتجاوز بضعة آلاف!
⁃ لم تـتـح الإمكانات البدائية للرواق التاريخي الصلابة التي تجعله يصمد أمام الظروف المناخية والتقلبات الجوية مما جعله عُرضة للتهدم من فترة لأخرى، كما كان التركيز فيه على النواحي الخدمية أكثر من النواحي الشكلية أو الجمالية!
⁃ جعلت الدولة السعودية الحرمين أولوية كبرى، لذلك نفذت مشاريع عملاقة تمثلت في نزع الملكيات المجاورة للحرم والقيام بأعمال التوسعة على محاور ثلاثة تشمل: زيادة المساحة الاستيعابية والمتانة والشكل الجمالي بما يتناسب مع تعظيم وقدسية الحرمين؛ لتظهر كأجمل المنشآت العالمية على مر العصور؛ ضخامة وجمالًا!!
⁃ قد تتضاءل الأعمال العمرانية بحجمها وضخامة الإنفاق عليها في مقابل المهام والمسؤوليات التي تتطلب استقبال الوفود، وإدارة الحشود، وتهيئة الإمكانات، وتسهيل الخدمات والتي تستلزم تجنيد الطاقات البشرية، وتذليل كل ما من شأنه راحة الحجاج والعُمار ورفاهيتهم ليؤدوا مشاعرهم بأمن وأمان، ومن ذلك رسم الخطط ورصد الميزانيات، وتنفيذ مشاريع مصاحبة، والقيام بمبادرات تجاوزت الحدود الجغرافية؛ إذ تبدأ من بلد الحاج أو المعتمر، فيما يعرف بمبادرة “طريق مكة” إلى استقباله في المطار ونقله وإسكانه وتوفير متطلبات العيش الرغيد، وما ذلك إلا بتوفيق الله ثم بالتعاون وتضافر الجهود، فيما يتوشح كل سعودي شعار(خدمة الحاج شرف لنا) استشعارًا للمسؤولية؛ واحتسابًا للأجر، من قبل كل من يُباشر خدمات زوار بيت الله ومسجد رسول الله، كي يؤدي كل حاج شعائره بكل راحة وطمأنينة إلى أن يعود لبلده سالمًا مظفرًا بالأجر!
⁃ التاريخ منصف، يحفظ لأهل الفضل فضلهم، كما يدوّن للعظماء إنجازاتهم؛ لذلك يستوقف عجلة الزمن ليدون ما يستحق، وليشيد بمن يستحق، وليروي للأجيال ما يستحق أن يكون حدثا تنتفع به الأمة في حاضرها ومستقبلها.. لهذا سيسجل بمداد من ذهب الإنجازات السعودية والمشاريع والخدمات التي قُدمت للحرمين الشريفين ولكل قاصد وزائر لهما، وسينقل لحظة تدشين ” الرواق السعودي” كلحظة تاريخية ذات قيمة ومعنى!!
⁃ جاءت تسمية “الرواق السعودي” استحقاقًا؛ نظير الجهود المبذولة والمشاريع العملاقة غير المسبوقة والخدمات المقدمة، وهذا يعد تتويجًا للإنجاز ووسام شرف يتقلده كل سعودي كون الحرمين منارات إسلامية وعنوانًا للتقدم والتطور باعتبارهما الأحق والأجدر؛ جمالًا وجلالًا؛ كقدسية نجلها بإجلال الله لهما!!
⁃ الشكر كل الشكر لرئاسة الحرمين الشريفين وعلى رأسها الشيخ الجليل معالي أ.د. عبد الرحمن السديس الذي يقود المنظومة الشرعية والإدارية والفنية للحرمين الشريفين بكل جدارة واقتدار، وبما يواكب التقنية والمعاصرة، مما كان لقيادته الأثر البليغ في تطور الخدمات وإتقانها وبما يحقق الانسيابية والرضا التام الذي يجعل الألسن تلهج شكرًا وغبطة وتقديرًا!!
⁃ أخيرًا:
حفظ حقوق من سبقونا لا يتنافى مع دمجها مع ما هو حديث، سيما أنه تم إعادته بالكامل، لذلك أرى أن ينحصر الرواق القديم في حدود المكبرية كإطار أو محراب مميز وتاريخي فيما يزال ما يتجاوز ذلك لتوفر مساحة أكبر للمطاف، إضافة لكونه تقليديًا لا ينسجم والزخارف الحديثة مما يعد مختلفًا وغير متناسق!!