رؤية نقدية: سمير الفيل
مدخل: مفهومي للقصة القصيرة :
أريد في هذه المقدمة ان أقدم للقارئ مفهومي للقصة القصيرة . حسب اجتهادي أرى أن القصة القصيرة تلتقط واقعة أو حادثة أو موقفا محددا ، تبني حوله صراعا ما. تبسطه عبر لغة متماسكة ، بحيث تتمكن الشخصيات من التحرك بقوة وإيجابية لتطرح خطابا ناصعا يحمل وجهة نظر محددة ، لا مراوغة فيها .
كل قصة قصيرة ناجحة تتضمن تبني موقف محدد من الحياة عبر حدوتة أو حكاية او مشهد أو واقعة باستخدام لغة معبرة ، مع فهم الشخصيات التي تنهض لحفر الصراع المحتدم وصولا إلى نهاية محددة أو مفتوحة حسب اجتهاد الكاتب المشغول دائما بتتبع مصائر الشخصيات التي يستحضرها على رقعة الورق .
يشترط أن تكون القصة القصيرة ، ذات إيقاع متناغم ، ورؤية محددة ، وخطاب سردي واضح . قد نميل إلى أن يصنع النص القصصي دائرة تتسع رويدا رويدا لرصد حركة الشخصيات مع وجود حبكة ، ولحظة تنوير ، وخاتمة .
ربما أمكن الاستغناء عن بعض العناصر دون الأخرى فالحدث أمر أساسي ، والمكان يسهم في أن يكون النص واضحا ثم أن الزمن يحضر ليمكن ترتيب الاحداث بشكل طيع وفعال . ولكل كاتب طريقته في تنضيد عناصره ووضع أولويته شريطة أن يشتغل على عناصره بعقل يقظ ، وقلب متلهف على تبيان الحقيقة .
هناك قصة الحدث وقصة الشخصية وقصة البورتريه وهكذا دواليك . بدون وضع حدود نهائية للأفكار أو الأشكال التي تتسع لها القصة القصيرة. هناك مثال مهم كنا نردده في بداياتنا ، وهو : ” أن أشكال القصة القصيرة تتعدد بإسهامات الكتاب العظام فيها ” . وهذا صحيح إلى حد كبير لكنني أشدد على وحدة الموضوع ، وقوة الأثر ، وبأهمية تلك الموسيقى التي تسري في النص فتشعر معها أنك في مواجهة عمل أدبي يقص عليك أكثر القصص بهجة أو حزنا .
قيل في مكان آخر :” إن القصة القصيرة تتعامل مع المهمشين في الأرض ” ، وهو ما نجده عند تشيخوف ، على سبيل المثال ، ولكنه ليس شرطا بل هو مجرد توجه محدد ، ومعيار للإجادة ، لا أكثر.
فالكاتب الذي يمتلك حيوية القص وجدته يمكنه أن يعالج كل الأفكار ، وأن يخضع الشخصيات لمفاهيمه العميقة ، ككاتب متمكن من أدواته. بالطبع هناك فكرة محورية للنص الطازج ، وهو أنك تكتب عما تعرفه ، وأن تحكي حكاية ما ، عشتها أو رأيتها أو سمعتها ؛ فتورطت في حكايتها تورطا جميلا .
فالحدث عنصر محوري ووحدة الحدث ذاته معيار للإجادة ؛ لكنني أتصور أن الكاتب الماكر مكرا فنيا أخاذا ، يمكنه أن ينفلت من كل القواعد المقررة ، ليشكل لنا بذرة قصة شيقة ، مستفيدا من الحركة الزمنية ، والترابط المنطقي بين الوقائع مع لغة مقطرة تسقط بعض التفاصيل التي ربما لا تكون ضرورية.
في أحيان أخرى تنهض القصة القصيرة على تعانق تلك التفاصيل فتصنع مروحة من مرايا متجاورة ينشأ عنها جدل فني خلاق . مع حساسية فنية تجعل النص القصصي حاملا عطاءات فنية باذخة ، ليطرح خطابه في خفاء دون أن يصك السمع بجملة نهائية ، لها طابع الاكتمال ، تهز معها الرأس لأنك فهمت ووعيت وأدركت الحكمة.
أقول لنفسي عند الإمساك بالقلم كي أكتب قصة جديدة : ” سوف أجعل قصتي ناقصة لأنه باكتمالها تفقد الكثير من رونقها ، وهي حيلة وضعت نصوصي دائما تحت مختبر سردي لاقتناص الدلالات بعيدا عن القراءة الأولى. هو نقص تعرفه الحياة ولعل انطلاق الخيال هو محاولة لتعويض هذا النقص ، وقد يصدمك ان الخيال ذاته لا يعرف الاكتمال النهائي أو إغلاق الدائرة .
أريد أن أقول أن حكمة النص ليست عملا مستقلا بذاته ؛ فكل قصة قصيرة حقيقية لها حكمتها المنبعثة من مجموعة الدلالات والخطابات السرية والوعود والبروق والانحيازات التي تجعل كاتبا ما متورطا في الفعل الإنساني للنص ناهيك عن التحولات المرتبكة لقوانين الحياة .
في جملة واحدة : القصة القصيرة من الجمال والنبل بحيث أنها تتجدد فعليا في كل محاولة لكتابة نص جديد؛ فالكثافة ، والتركيز ، والصدق الفني ، والوعي ، وقوة الأثر ، كلها عناصر أساسية يمكن دمجها معا في صرة سردية كي يكون نصك صادقا وأصيلا.
سأتوقف هنا أيضا لأعترف لكل من يقرأ هذه المقدمة ، أن حديثي هنا قد تصيبه قلاقل معرفية ، وانكسارات وجدانية ، وإزاحات جمالية ، وانحرافات معيارية ، فأنا ككاتب قصة قصيرة محترف ، أعيش دائما مرحلة التجريب ، وأجد متعة لا تدانيها متعة كلما شرعت في كتابة نص جديد ، في نفس الوقت الذي أرتعد فيه رعبا مخافة التكرار والنسج على منوال سابق أوخفوت الدلالة أو شحوب الخطاب ، ذلك أن المغامرة واقتران الدهشة بالمتعة ، يحققها كل نص سردي أصيل حتى لو لم يمتلك الكاتب المؤرق بمصير نصوصه ، خلفية تنظيرية متماسكة وقوية.
* صورة غير نمطية للزاهد:
تعالوا بنا نستعرض بعض نصوص مجموعة محمد صالح رجب، المعنونة ب” ضد الكسر” لنطبق ـ ولو جزئيا ـ بعض ما جاء في مقدمتنا التنظيرية التي لا تدعي الكمال ، ولا تقطع الطريق أمام كل محاولة مختلفة لتحديد مفهوم القصة القصيرة .
تبدو شخصية الشيخ العارف بالله من الشخصيات الإشكالية في ديوان السرد المصري ، فهو يمثل ذلك الطيف الإنساني المراوغ ، الذي يمثل حضوره حفظا للمكان ، وتبريكا لسكان البيوت المطلة على حانوته . أما هو فأفعاله غامضة ، وسلوكه يقع في المنطقة المشتركة بين الزهد والبركة.
في كل حارة مصرية يوجد ” الشيخ مجدي ” بأسماء أخرى ، وبتفصيلات متنوعة لكنها على الدوام تقترب من دائرة الاستغناء ، وتكون قليلة الكلام ، وأفعالها انعكاسا لقوة ما غير معلومة ، ربما صارت تلك الأفعال هي التي تعرف الناس بها ، فيكتشفون حقيقة أنفسهم من خلال رصد أساليب التعامل معه .
في هذا النص نحن أمام مشاهد متقاطعة لرجل بسيط ياتي من عمق الصعيد ، ويطلب من أهل البيت القديم الرطب أن يجلس ببضاعته أمام المسجد ليتكسب رزقا حلالا ، وما تلبث البركة أن تعم المكان ، لكن ابن الرجل الطيب يموت وكذلك زوجته فيظل في حاله البائس متنقلا بين البيت والمسجد . أما الراوي فيحصل على عقد عمل في الخارج ، وبعد سنوات ، ينصلح حاله ، فيما يثري شقيقه فيبتني عمارة شاهقة ، ويشتري سيارة فارهة .
يعود الراوي فيكتشف غياب الشيخ ويجد شقيقه طريح الفراش ، فينتابه إحساس قوي أن ما حدث من نقص وعلل نتيجة التخلي عن الرجل الصالح ، يظل يبحث عنه في الشوارع والأسواق دون جدوى ، ويسكن القلق صدر الراوي لذلك الغياب الفادح . ينتهي النص بشخص يأتي للحارة ليسأل عن الشيخ مجدي فيعترف له الشقيق أنه من طرده ويعرف الأخ الطيب أن نفس الشخص جاء يسأل عن الشيخ مجدي ، لكأنه ” المهدي المنتظر” . فالكاتب هنا يعمل على أسطرة الواقع ، ولا يكف عن تأمل مفارقات الحياة مستندا على مادة شعبية تخص الأولياء والصالحين والمكشوف عنهم الحجب ، والمنكسرين في الأرض.
تلك الثلاثية بين الشيخ محسن والراوي والشقيق قاسي القلب ـ ليس في النص ما يصرح بتلك الأخوة لكنني أعلي من هذا الفرض ـ تكشف صيرورة الحياة بين فقر وغنى ، بين علو وانخفاض ، بين قسوة ورقة. هي ثنائيات سنراها تتكرر في أغلب نصوص محمد صالح رجب .
* عوالم مسكوت عنها :
في قصة ” عروسة وعريس ” يستحضر القاص عوالم مسكوت عنها ، فالبنت التي تلعب مع ابن الجيران لعبة ” عروسة وعريس ” ، لا تستوعب كم الفجائع التي ستتعرض لها بعد أن رأتها أمها تلعب مع الصبيان ، وهمست لأبيها أن البنت قد فار جسدها والمفترض سترها . لم تكن البنت الغريرة تعرف مفهوم الزواج وهي تساق إلى ” العم سالم ” فينتهك براءتها ، وتشعر بالإهانة لأنه قد تم اقتحام جسدها بلا مقدمات.
يمهد القاص لتلك الواقعة برصد البيئة الفقيرة التي تنتمي إليها البنت ، فالأب يفترش الأرض ويسحب أنفاس الشيشة ، فيما الأم الولود ، تسخن سكينا لدرجة الإحمرار وتهدد به الفتاة ثم تسوقها إلى رجل يكبرها كثيرا حتى أنه يموت بعد أشهر معدودة من الزيجة الغير متكافئة ، ويتركها أرملة.
قبل الاتفاق تسألها أليست فرحة بالفستان الجديد وبالمعازيم ، والناس التي سترقص في فرحها فيما هي تحجب عنها حقيقة الزواج ، ومعناه ، وتبعاته الجسدية والنفسية . تعترف الفتاة أن ليلة الفرح كانت دامية حيث اختلط فيها الدم بالبكاء ، وبعد الموت الذي حررها جزئيا من ذلك الزواج المؤلم ، لم تتمكن من الخروج من بيتها ؛ فشهور العدة لم تنته بعد، وبقيت محبوسة في حجرتها التي ضاقت عليها ، وحين عادت لبيت أبيها حاملة حزنها ، رأت الأم أن تزوجها من جديد بحثا عن الستر.
النص يطرح عدة قضايا في صرة سردية واحدة ؛ فهو يعالج فكرة تزويج البنات صغيرات السن لرجال في طور الشيخوخة ، كما أنه يمس فكرة وأد البنات وجدانيا بالإسراع بتزويجهن قبل الوعي بمفاهيم الزواج ، وهو كذلك يمر على موضوع ” العدة ” بعد موت الزوج ، فما أن تنتهي منه حتى تفكر الأم ـ وهي تضع على وجهها قناع العبوس والصرامة ـ في تزويجها من شخص آخر ؛ لأن وجود أرملة في بيت الأسرة معناه وجود خطر داهم حيث من الضروري أن تتستر برجل ، حتى يمتنع الكلام المرسل عن كل امرأة بلا رجل .
كل هذه القضايا يتناولها الكاتب ، ويطرحها لبساط البحث دون أن يصل إلى حلول فهذه ليست مهمته ، وعنوان المجموعة ” ضد الكسر” ، تعني أن هناك في حياتنا نفوس انكسرت ، وقلوب أدميت ، وعقول التاثت بسبب إصرار المجتمع على التدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس ، لاسيما المرأة التي تظل فاقدة الأهلية بموجب الأعراف التي تجب القوانين الرسمية.
لاحظت في هذا النص أن القاص قد تسلل برفق لبسط هذه المواجع بشيء من الهدوء ، وقد حاول أن يثبت عدسته على أكثر المواضيع إيلاما للنفس لكنه في الوقت ذاته تحدث عن الفقر ، والجهل ، وتقييد حرية الفتيات في مجتمع قاس لا يرحم ، وهذه إحدى ” الثيمات” التي تتكرر في نصوص الكاتب السردية.
* الماضي حين يكون حاضرا:
تحتشد نصوص الكاتب باقتناص لحظات مضيئة في حياة أبطاله المنكسرين تحت مطارق الزمن ؛ فالبنت الصغيرة تشعر بحب الأب لها ، مما يثير أخوتها ، وهي عنده غالية وعزيزة حتى أنه يطلق عليها لقب ” الدكتورة “. هي في كنفه وتحت رعايته تشعر بالطمأنينة وبالحنان الجارف ، فهي بالنسبة له ” آخر العنقود” ، وهو يمثل لها الحضن الدافيء ، ودائما ما يتأمل حياته ويطمح في أن يعيش حتى تصير عروسا.
يموت الأب الحنون ، وتشعر البنت بفقدان عظيم ، وبعد مرور عشر سنوات ترصد التحولات التي حدثت في حياتها بعد أن رحل ، فقد تزوجت وأنجبت طفلا سمته باسم الراحل ، وهي تستحضر أيام المرض ، ونوبات الغيبوبة ، وكيف أنه عندما ساءت حالته سأل عنها ، لتكون صورتها آخر ما وقع عليه بصره في الدنيا . أسرع شقيقها ليستدعيها من المدرسة لكنها حضرت بعد أن فارقت الروح جسده المتهاكل .
” طيف من الذاكرة ” هو عنوان هذا النص الذي يلعب بالزمن الغادر كما لعب بجسد الأب ، وانتهكه تحت عوامل المرض ، والكاتب يقدم ويؤخر لكنه لا يتخلى عن كون النص ذاته مرثية للأب الراحل . يأتي السرد على لسان البنت ، ورغم مرور سنوات الفراق فهو حاضر في وجدانها ، ولا يمكنها تصور الكون دونه . بالحيلة تجده أمامها ، في ملامح هذا الرضيع التي تحمله بين يديها . وهناك رسالة يبثها النص هو انتقال العصا بين الأجيال ؛ فحين يرحل الأب يأتي بعد سنوات الابن الرضيع الذي هو حفيد الراحل لتستمر دورة الحياة ، ويبدو أن هذا النقص هو ديدن الحياة في تقلباتها ، وتشظيها الدائم .
النص بسيط ، ولغته طيعة ، وجمله مقتضبة بل متقشفة لغويا ، وبغض النظر عن العنوان الذي بدا رومانسيا بعض الشيء ، فهناك مساحة إنسانية تظلل العمل من ألفه إلى يائه مضمخة بعذابات الفقد التي تجعل البشر محزونين بطبعهم ، فقد خلقهم الرب في كبد .
* الموت هو الحاضر الدائم:
الحديث عن الموت أو حضوره المزلزل ، هاجس قوي في قصص المجموعة ، وهذا ليس بغريب فهو الوجه المقابل للحياة ، والإنسان عندما يتأمل تفصيلات جميع ما يحدث يجدهما ـ أي الموت والحياة ـ متداخلان أشد ما يكون التداخل ، ومفترقان ، بلا حدود .
الحياة تعني الحركة والصيرورة والامتداد ، وهي في ذات الوقت لا تنفي نقيضها الموت ؛ فهو مباغت ، وقوي ، ولحوح. وحسب ما يرى الكاتب فإن الوجوه الراحلة تظل موجودة ، مؤثرة ، مضيئة ، رغم ذهابها لأنها تركت أثرا لا يمكن محوه أبدا. هذا ما نتتبعه في قصة ” وجع ” ، فالكاتب يرصد لعب بنت صغيرة وشقيقها في البيت الفقير ، البائس في محتوياته الرثة ؛ فهناك كرة يتخاطفانها ، وصراع على من يمكنه استخلاصها ، وبينما المطاردة على أشدها تسقط الكرة فوق رأس الأم المنكفئة على ماكينة الخياطة.
إن رأس الأم المشغولة بهموم تدبير لقمة عيش نظيفة توجعها ، ويهرع الابن وأخته للاعتذار إليها ، خوفا من العقاب المتوقع ؛ خاصة بعد أن تصدر آهة نتيجة للوجع الذي تشعر به.
لكن الوجع الحقيقي يتمثل في موت الأب فقد ترك فراغا ، وبدلا من العقاب القاسي تحتضنهما ، وتنظر دامعة العينين إلى صورة الأب المعلقة في إطارها فتدعو له بالرحمة.
حسب خبرتي في هذا المجال ، فإن الأم التي فقدت زوجها تميل دائما إلى استعمال القسوة بل والشدة في تربية الأبناء خوفا من أن يتسبب ” الدلع ” في فشلهم ؛ لذا تكون قبضة الأرملة باطشة ظاهريا بينما هي حنونة ، تخاف على ابنائها وتبسط لهم كفوف الرحمة .
لقد فضل القاص أن يصور المشهد بشكل مثالي ، وجاء استخدام ضمير المخاطب موفقا ، والعنوان يعطي دلالات مختلفة عن ” الوجع” الذي سكن قلب أمرأة تعاني غياب الزوج فتعكف على تربية الأبناء بصدق واقتناع وإخلاص ، كأغلب النساء المصريات اللائي ينجحن ـ في الغالب ـ في تنشئة أبناء اليتم ، بما لديهم من شعور حقيقي بالاطمئنان والدفء رغم الغياب الفادح للأب .
سوف أتوقف أمام مساحة النص على قصره ؛ فقد جاء مناسبا للقطة التي اختارها الكاتب ، وهو ما يمثل تحديا في إبراز الصراع الداخلي قبل أن يكون الخارج هو نقطة الانطلاق . كذلك فإن ” ماكينة الخياطة ” هي أيقونة المرأة الكادحة المكافحة ، وهي تمثل لتلك الأسرة المتراحمة بابا للرزق ، واختيارا واضحا لتربية الأبناء ، بديلا عن زواج جديد غير مضمون العواقب .
* صورة للمقاومة :
يبرع الكاتب في رصد تلك الظواهر الإنسانية التي كثيرا ما تمر علينا مرور الكرام ، فهو يقتنص صور من الحياة لمواقف إنسانية علت فيها قوة الحياة على بطش الموت وجبروته.
نحن أمام مشهد صعب يتمثل في امرأة لا تملك القوة الكافية لمواجهة عنفوان الدمار ، وملامح الهلاك ، حيث نشعر أننا في معركة غير متكافئة بين ضدين ، لكن النتيجة تكون دائما لمن يمتلك الإرادة .
في نص يحمل عنوان المجموعة القصصية ” ضد الكسر” ، نحن في مواجهة صراع في غاية القوة والاحتدام ، فهناك طفل يبدو من سير الأحداث أنه تحت الانقاض ، وجدته تحاول إنقاذه ، بكل ما أوتيت من قوة ، متشبثة بأيمان فطري ، قوي ، وغلاب ، أنها ستتمكن من تحقيق ذلك.
إنها تتحسس مكانه ، تتشبث يملابسه ، محاولة جذبه من تحت الركام المتناثر هنا وهناك . قلبها يدفعها لاختباره : هل مازالت أوردته وشرايينه تنبض ؟
هناك ظللام دامس ، وقرصتها له تعلن بقائه على قيد الحياة ، تكرر المحاولة كي تنتشله من هذا المكان ، وحين يتلاشى صوته تشعر بالخوف ، وتؤكد لذاتها أن صمته لا يعني موته . لقد استشهد ابنها وزوجته تحت قصف مدافع أو قنابل الأعداء ، وما بقي هو حفيدها الصغير ، ولنلاحظ هنا المعنى الترميزي لاختيارها ” الطفل ” ، لذلك أبت تلك المرأة أن تنكسر ، وكررت محاولاتها رغم أن قواها كادت تخور ، وقد تجدد أملها مع تسلل الضوء من كوة بالجدار المهدم . بات عليها أن تكرر جهودها لاسيما أن ” همة ” رجال الإنقاذ تمدها بخيط من خيوط المقاومة .
بالفعل تنجح في انتشال الصغير ، وتبتسم قبل أن يسكن جسدها ، لقد نجحت في انقاذ الطفل فكتبت له حياة جديدة بينما رحلت هي .
أتصور أن نص ” ضد الكسر” هو وجه آخر لقصة ” الوجع” فالعنصر الفاعل هو ” المرأة ” والأبناء أو الحفيد يمثلون معنى الاستمرارية والبقاء ، كما أن تصميم الجدة على الحفر ونبش التراب لتخليص الصغير من الجدران المتداعية هو نفسه يشبه محاولة الأم في قصة ” وجع ” حيث تتهيأ الأم لانتشال طفليها من وهدة الفقر ومذلة السؤال .
لي فقط تعقيب على العنوان ، فهو يعني أن تلك المرأة القوية بصلابتها ” ضد الكسر” ، وأستطيع القول أنها سيدة رقيقة وقد تكون ضعيفة جسمانيا لكن إرادتها هي الصلبة . وددت كذلك أن أعرف ” من هو العدو ؟ ” . ذلك المجرم الذي أقدم على قصف المنزل وهدمه فوق رؤوس ساكنيه ؟
في كل الأحوال فإن النص يدعو للتفاؤل ، ويقدم لنا شخصية نسائية تمتلك قوة ما في مواجهة البطش ، لكنني أتصور أن حياتها أيضا ثمينة ، رغم كل شيء . ربما أراد القاص أن يجسد حجم التضحية بموت الجدة .. أي أنه ينتصر للمستقبل بكل وضوح ، وبلا تردد.
* خطاب أخلاقي :
حضور الموت الواقعي أو الترميزي يسير بخطوط منكسرة ، وبأسهم صاعدة أو هابطة . يحاول شخوص تلك النصوص السردية الانفلات من مصيرهم التعس ، فيتعالون على أحزانهم ، متسلحين بحلم لا يغادرهم أبدا .
فتاة الليل في قصة ” عرايا ” ، تترجل من السيارة الفارهة ، وتدخل الكباريه ، ثم تلبس بدلة الرقص الشفافة ، فترقص على أنغام الموسيقى بينما الأكف تصفق والآهات المعجبة بالجسد الفائر تتصاعد ، حيث الغواية تعصف بالجمهور المترقب.
بعدما تنهي فقرتها ، تستبدل بذلة الرقص لتجلس في الصالة ، وفيما هي تمر بين الطاولات المتراصة تتعالى تعليقات الجمهور الساخرة ، لا تهتم بذلك ، فكل ما تريده كأس خمر ، بعدها تعود مترنحة إلى بيتها آخر الليل حيث تغط في سبات عميق ، شبه ميتة.
فيما يبدو فإن تلك الشخصية التي تبدو منتهكة وساقطة ومبتذلة ، لديها من الأسباب ما يجعلها تفكر في نبذ حياتها الخائبة ؛ فهي في مفترق طرق ، إما أن تستمر في طريق السقوط أو أن تقوى على انتشال ذاتها من تلك الحياة التعيسة .
تخرج إلى شرفة بيتها ، فتقع عيناها على مشهد رجل وزوجته ومعهما طفل صغير ، فيرق فقلبها لذلك الدفء الأسري الذي تفتقده ، ومن ثم تفكر في رحلتها المؤلمة . تنزل من بيتها ، تاركة المحمول ، مرتدية ملابس محتشمة ، تصبو إلى حياة أخرى نظيفة ، وبلا خطايا.
لكن فيما يبدو فإن المجتمع نفسه يرفض صورتها الجديدة ، ويصر على أن يدفعها دفعا باتجاه الخطيئة والسقوط في الوحل الذي عافته نفسها. فقد ساقتها قدماها إلى الكورنيش ، حيث جلسة متأملة على الأريكة في مواجهة نهر النيل . إنها تلاحظ ما حولها ، ثمة شاب بجوارها يتأمل فتاته ، يتهامس وإياها ببراءة تفتقدها.
هي مساحة من الجمال الغائب عنها ، ودت لو أنها عثرت على مثل هذا الحب النظيف . وفيما هي تقلب الأفكار في عقلها يقترب منها شخص ليهديها وردة ، قربتها من قلبها مستبشرة خيرا ، كأنها عتبة ملائمة تعوضها عن حياة فقيرة ، تكاد تخلو من المشاعر الصادقة. لكنها تدرك متأخرة أنه قد تسلل إليها كي يقتحم جسدها من جديد ليعيدها إلى سيرتها الأولى . حين ترفض الفتاة هذا المسلك المشين ، يعايرها بماضيها ، يلقي إليها جملة مرغتها في الوحل من جديد :” هتعملي علي شريفة ؟! “.
وهي جملة تلخص تاريخ سقوطها ، وفي تفس الوقت تقطع عنها كل جسر للأمل ، كان عليها ان تقطعه لتصل إلى هذا الشاطيء النظيف . يالها من مأساة . يستعرضها الكاتب بعين يقظة ، فيؤكد أبعاد المأساة.
نحن كمتلقين نتوقف أمام عنوان النص ” عرايا ” ، وهو ما يعني أن المجتمع ذاته هو من يمارس البغاء حين يدفع النساء إلى دائرة الرذيلة ، وهو يرفض منح فرصة التوبة لتلك الشريحة التي تعاني من وضعية اجتماعية منسحقة . إنه لا يهتم بذلك قدر اهتمامه بمتعته ، وليس أبعد من ذلك.
الحدث الرئيسي يقع في القاهرة ، في الليل تحديدا ، والفتاة البائسة المحطمة التي ودت لو خرجت من دائرة البغاء ، تتعرض للعنت ، وتمارس عليها صنوف شديدة الوطأة من تلميح بماضيها الأسود . هنا ، يتم إسقاط حلمها في التحرر من السقوط التاريخي لتلك الشريحة المسكينة من مجتمعنا القاسي .
قد يكون الموقف كله يشكل خطابا أخلاقيا ـ هذا صحيح ـ لكنه يضرب على وتر حساس يخص تلك الإزدواجية التي يعيشها مجتمع مصاب بالانقسام أو بالشيزوفرينيا . أتصور أن النهاية المفتوحة تضع الفتاة في منطقة اختيار ؛ فإما أن تتشدد مع ذاتها لتنجو من الاستمرار في السقوط المدوي ، وهذا يحتاج إلى إرادة صلبة ، ومواضعات اجتماعية مساندة ، تدعم اختيارها الجديد ، وإما أن تنهار كليا ، لتكون النهاية الدامية التي يعرفها كل من قام برصد مثل تلك المسيرة الشائكة لفتيات الليل أو بنات الهوى!
* المرأة وطرائق مختلفة للصراع :
أغلب نصوص المجموعة تبحث عن المرأة في تجلياتها المختلفة . أحيانا تكون قوية ، أصيلة ، متناغمة مع الحياة حولها ، وأحينا أخرى تكون خارجة عن النمط الأخلاقي الشائع ، فتسحب معها ضحايا بسطاء من محيط القرية أو بقلب البندر، وفي أحيان ثالثة تقف عند الحد الفاصل بين الفضيلة والرذيلة ، أو بين المقدس والعهر.
في قصة ” على كوبري بلدنا ” ، نقابل تلك الإشكالية ، فشباب القرية قد تعود على الجلوس على كوبري البلد للسمر وإزجاء أوقات فراغهم . هناك من كبار السن من يعتبر تلك الجلسة مفضية إلى فساد أخلاقي محقق ، حيث التحديق في المارة ، وإدامة النظر للنساء ، والبعض يعتبر وجودهم أمان للقرية ، وطمأنينة للدور الهاجعة في الظلمة .
يحدث أن ترجلت من الميكروباص ، امرأة شديدة الجمال ، فأصابت الجالسين بالخرص من فرط جاذبيتها ، لم ينبس أحد ببنت شفة ، وهي تعبر المكان . مالبثت أن سقطت أرضا في مواجهة الشباب نتيجة حتمية لارتباكها الشديد ، وسرعان ما انتفض أحد الشباب ليقيلها من عثرتها ، وفيما هي تهم بالنهوض عاجلها بعبارة تجمع بين الغزل والإعجاب .
في عتاب بين والد الفتاة وبين والد الشاب ، صدرت عبارة أخرى محتجة على عودة البنت في تلك الساعة المتأخرة ، وهو ما مثل إهانة لوالد الفتاة الغضوب ، لذا هجم على من تفوه بتلك العبارة ، وأصابه إصابة بالغة نقل على أثرها إلى المستشفى . تنتهي أحداث القصة بقرار من العمدة ، يمنع فيه الشباب من الجلوس عند الكوبري ، في حين يترك الكاتب لنا مهمة تصور نهاية مختلفة ؛ لأن الشباب المتمرد بطبعه ، سيرفض بالقطع سلب حريته .
العمدة يمثل السلطة ، وحسب ظني فهناك من الشباب من يهمه أن يسقط هذا الغطاء الأبوي الذي لا يناسب العصر . ومما لاشك فيه أن الصراع هنا مستمر ، ولا يمكن تحديده في صيغة واحدة . الشيء اللافت للنظر أن سبب تلك المشكلة هي المرأة بما تبعثه من صراع ينشأ دائما بين القديم والجديد ، وربما بين مفاهيم أخلاقية بعضها جامد وبعضها الآخر مرن . يهمني كمتابع لحركة التحديث في القرية ، أن الكاتب ترك لنا تصور نهاية من اجتهادنا ، فالنص يكمله المتلقي حسب قناعاته.
لكن قصة أخرى تدير الصراع بشكل مختلف حيث تختلف أطراف الصراع تماما ؛ فالزوجة الجميلة بعد أن عاشت قصة حب مع شاب من أصول قروية ، وافقت على الاقتران به . بدأ يهملها وينتبه لعمله أكثر من أي شيء آخر. إنها تقف في مواجهة المرآة كي تحاول ضبط ملابسها التي ضاقت عليها ، مسترجعة ما مر بها من مواقف وضعتها على حافة الانفجار .
” شق القمر ” هو اسم النص ، لكنه في ذلات الوقت ” اللقب ” الذي كان يطلقه عليها الزوج قبل الاقتران بها ، وقد كانت أجمل بنات الدفعة بجمالها ورشاقتها لكن بالاعتياد والتكرار فترت العلاقة ؛ خاصة أن الزوج يؤخر الإنجاب لأسباب غير منطقية . إنها تدخل صراعا لا تعرف نهايته مع ذلك الزوج الذي يسلبها كافة حقوقها ، ويجعلها ” دمية ” في يده ، يريد أن يحركها كيفما شاء .
تقابل هذا التصرف باحتجاج مماثل ، فهي تغلق هاتفها ، وترفض أن تواصل الاتصال به ، وهي بداية موفقة للخروج من مداره المهين لكرامتها . هذا الصراع القوي يمكن أن نقرأه بين السطور ، غير أن الكاتب يقدم وجهتي النظر فيما يشبه عريضة الحال ، فهي مرافعة من كلا الطرفين ، وفي النهاية يميل قليلا إلى جانب المرأة لينتصر لها ، بعد أن فهمت أن القمر يمكنه أن ينشق إلى نصفين حيث لا اكتمال ، ولا تحقق مثالي .
هذا الشكل الترميزي لطبيعة العلاقة الجديدة تصل بالصراع إلى منتهاه فقد ملكت أرادتها لترفض وضع التابع الذليل ، وبدا خروجها إنقاذا لذاتها من التصدع ، ربما على المستوى السيكولوجي قبل غيره من مدارت أخرى.
ربما كان لي أن أعترض على الجانب التحليلي بالنص الذي طال بعض الشيء ، وكان يمكن أن يتفتق الصراع على مواقف أو شواهد ، يحدث بها الصدام على مستوى الواقع ، لنكتشف جوهر الحياة في ديمومتها ، وتناقضاتها التي لا تكف عن الحدوث بطرائق شديدة التنوع .
* فن ” البورتريه” :
يعكف الكاتب في بعض نصوصه على رسم” بورتريه ” لشخصيات منتزعة من الحياة ، بعد أن يضعها على محك التجربة ، وهو يستخدم طريقة بسيطة للسرد فيبرز الأضداد كما نجد ذلك في قصة ” الأستاذ محمدين”.
النص يتحدث بكل بساطة عن شخص لم ينل حظه من التعليم ، ولا في تولي المناصب العليا ، وبرغم ذلك فهو إنسان لبق ، فعال ، طيب القلب ، يهتم بمظهره ، بالرغم من كونه ” فراشا”.
تحدث الأزمة عندما يمر الأستاذ علاء ـ مدرس اللغة العربية ـ وزوجته من أمام منزله ، فما كان منه إلا تحية المدرس والزوجة بعبارات الترحاب ، ولقد وجدها المدرس فرصة للحط من شأن العامل الذي كاد يزاحمه في تقدير الناس له ، فيصطنع مشكلة بعد أن ظن أنه يغازل الزوجة.
الغريب أن رد فعل العامل عبر عن تسلحه بخلق قويم فهو لم يقابل الإساءة بمثلها بل تجاوز ذلك كليا ، وتبسم في وجه خصمه وطمأن الناس أنه لا يوجد مشكلة بينهما . حين ينهض المدرس من مقعده مستفزا ، يسير مع زوجته التي تصمت مثله لكنها تخاطبه بقرف وريبة ، مستحثة إياه أن يتعطر ، ويختار لنفسه ملابس مناسبة لوضعه الاجتماعي.
لقد سربت القصة خطابا سهلا وواضحا عن تشكل الشخصية بغض النظر عن الوضع التعليمي ، فالعامل البسيط لديه من اأدوات التحضر ما يجعله عالي الكعب عن المدرس الحاصل على مؤهل عال.
وفيما يبدو فإن ميل الزوجة لرفض سلوك زوجها جاء نتيجة مقارنة سريعة بين الشخصين ، الأمر الذي دفعها للاشمئزاز من سلوك الزوج ، عبر جملة سريعة لخصت الأمر برمته.
اختار الكاتب أن يضع عنوانا مراوغا فقد خلع لقب الأستاذية على العامل لينصفه منفلتا من واقع رث ، ينظر إلى الشهادات كغاية في حد ذاتها . وقد جاء رسم تفصيلات شخصية ” محمدين ” بشكل احترافي ، فجعل كل من يقرأ النص ينفر تماما من مثل تلك الشخصيات ” المهزوزة ” التي يمثلها ” علاء ” . الأمر الذي يجعلنا نعتقد أن إبراز الأضداد جاء بشكل لطيف وسهل فوضحت الرسالة دون تدخل من الكاتب إلا في حدود رسم الخيط السري للصراع . وأعتقد أنه صراع يبدأ بالجوهر ويتفاعل مع الحدث ليصل إلى الخارج أي إلى الشكلي .
أما في نص ” مسيو علاء ” فرسم البورتريه تم بشكل كاريكاتوري ، فالمدرس خفيف الظل تعود على التعامل مع طلابه بشيء من المرح والنزق ، ولم يتقدم نحو تعليمهم اللغة الفرنسية بشيء من الجدية .
لذا فعندما جاءت زيارة الموجهة للفصل كان عليه ان يغير من طريقته في التدريس ، وفيما يبدو فإن الوقت وقلة معارف الطلاب لم تسعفه فتفجر الموقف بشكل كوميدي صارخ والطلاب يردون على تحية الموجهة بعبارة :” بنجور مسيو “، مما يعني أنهم لا يدركون فروقات اللغة.
إن رسم المشهد تم بشكل لطيف ، وتمكن الكاتب من رسم بانوراما للفصل كله ، ولكن تركيز العدسة كان لحساب المعلم الذي بدا متوترا خشية وقوع طلابه في الخطأ، وهو ما حدث بشكل جماعي. وقد نجح الكاتب في تبيان مناطق الضعف في شخصية المعلم عبر موقف عملي منتزع من الحياة ذاتها. لقد غضب المدرس ولم يتمكن الطلاب من معرفة سبب ذلك الغضب وانتهى النص ولمسة الفكاهة تظلل المشهد لتمد المجموعة بشيء من المرح الخفيف حيث أزيحت المأساة للهامش وصولا لصورة من تلك الحياة التي تعرف التنوع وتتسع للتباين.
* دوائر الفقد في نصوص حزينة:
على هذا النحو ، تتعدد طرائق السرد ، حيث يتم التركيز في كل نص على مسألة بعينها ، عبر ترتيبات سردية تتعمق في التقاط الحدث من زاوية بعينها ، لمعالجة بعض القضايا الاجتماعية التي ظهرت في الفترة الأخيرة من عمر مجتمعاتنا العربية ، ففي قصة ” صرخة” ، تتسلل العدسة بتؤدة إلى سطح بيت مفروش بالقش ، حيث عشش العنكبوت في زواياه، وثمة عجوز في الخمسينيات تجلس بنظرها الكليل ، ساهمة لساعات على كنبة خشبية في شرفة منزلها الطيني ذي الطابقين.
مأساة تلك المرأة أن بناتها الثلاث قد متن تباعا ، وبقيت هي وحيدة ، بعد أن تخلى عنها الابن الوحيد ، ناسيا جذوره ، وتربية الأم المخلصة له بعد موت الأب .
لقد تبرأ منها هذا الإبن الجاحد بعد أن تزوج من سيدة ميسورة الحال ، وسكن العاصمة ، وحصل على رتبة اجتماعية أفضل . أما هي فلقد عزلت نفسها في منزلها ، وهاهي تجلس وحيدة تترقب عودة ذلك الابن الغائب.
لكن قصة الجحود لم تقف عند ذلك الحد ، ففي شرفة المنزل المقابل تقف شابة في العشرين من عمرها بأنوثتها الطاغية ، تفتح مذياعا وتمسك كتابا تقرأه على أنغام أغنية سريعة الإيقاع . لقد حرمت على نفسها دخول بيت العجوز ، خوفا من أمها ، وقد جذبت الفتاة خيط الذاكرة ، ولاح لها طيف الشاب الذي تنكر لها مثلما فعل مع أمه المسكينة .
تتوجس الفتاة خيفة بعد أن لمحت جسد العجوز ساكنا ، وما لبثت أن هرولت نحوها ، لتتأكد من موتها بعد أن تخشبت جثتها .في تلك اللحظة ودت أن تحطم صورة الشاب العاق ، لكنها تتراجع عن هذا الفعل فقد فرض الموت سطوته على المكان.
إن الصرخة التي أطلقتها الفتاة هي إعلان واضح وقوي عن موت حبها للابن الذي تخلى عن أمه في شيخوختها ، وربما كان على تلك الفتاة أن تدفن حبها في قلبها للأبد غير أنها ظلت واقعة تحت حافة الانتظار ، لتشترك مع الأم في هذا الموقف الغير منطقي.
تصور القصة الجحود الذي يجعل الابن يتخلى عن ماضيه القديم ، ليحاول أن يصلح أحواله بالتزاوج مع إحدى بنات الطبقات الثرية. كما أن البطل هنا ليس الفتى الطائش بل الأم التي ظلت في انتظارها دون أن تفقد الأمل.
حاول القاص أن يدين بتلك اللوحة السردية هذا المسلك المعيب الذي جعل الشاب عزوفا عن زيارة أمه . وبغض النظر عن عدم واقعية موت ثلاث بنات في حياة الأم فإن وقع الموت المتكرر ، يجعل انتظار العجوز هو حالة من رفض هذا الغياب ؛ فبالرغم من موت زوجها المبكر فقد قامت بالواجب ، الشيء الذي خالفها فيه الابن الذكر. والعنوان” صرخة” لا يعني صرخة الفتاة الشابة في المنزل المقابل بل يعني ” الصراخ ” الرافض لحوادث الحياة في مواجهة قوى الشر والظلم والحيف.
إذا كان الموت هو الذي ينهي تلك العلاقة التي ظلت على الحافة بين الأم وابنها الغائب ، فهي في قصة ” رائحة المطر” ذروة الحدث، فهناك امرأة ما تتذكر اللحظة التي طست سيارة مسرعة زجاج سيارة زوجها بالوحل فاضطربت عجلة القيادة في يده ، وفقدت هي وزوجها طفليهما الذي راح نتيجة ذلك الحادث المأساوي.
يبدأ النص من منطقة غائمة حيث زخات المطر المتساقطة ، والتي تغسل القلوب وهي تستسلم لدموعها الغزيرة ، دون
أن ندرك سبب المشكلة التي جعلت الحزن يسكن قلبها .
إن نار الفراق يجعلها تشعر بالفقد ، ومع تتالي ذكريات الطفولة تشعر أن رائحة المطر كانت تبعث في نفسها بهجة غامضة ، لكنها الآن تستعيد المشهد الدامي لتتأرجح مشاعرها بين طفولتها التي مضت إلى غير رجعة ، وبين واقعها المظلل بذكريات قاتمة.
منح الكاتب انفسه مساحة للحركة بالصعود والهبوط زمنيا لتتداخل الأحداث ، وليعبر من خلالها عن فقد مختلف تماما ؛ فإذا كانت المرأة العجوز في ” صرخة ” قد فقدت ابنها بغيابه المبني على حسابات خاطئة ، فالأم في ” رائحة المطر” تفقد طفلها في لحظة مأساوية لا حسابات فيها.
* النزعة الاخلاقية في نصوص اجتماعية :
لا شك أن خطاب السارد في بعض نصوص المجموعة يتجه لتقديم موعظة أخلاقية من خلال عرض حال بعض الشخصيات من منظور واقعي ، وهو ما نجده في قصة ” توبة” ، فالقصة تتحدث عن موظف شاب يلتقط أوراق الصحف في طريقه من عمله إلى بيته ويضعها في ملف يحتفظ به ، دون ان يقرأ شيئا مما جمعه.
طيلة خمس سنوات يفعل ذلك بانتظام ، وحين يصل المنزل يجد والديه نائمين ، مما ينقذه من العتاب لعدم التزامه دينيا بالصلاة في مواعيدها. وقد حدث أن وقعت عيناه على ورقة تحمل حكاية امرأة عارية في المدينة ، وكيف كانت نهايتها الماسأوية بموتها ، عندها تحول الحضن الدافيء إلى سراب ، وجسدها الحارق إلى كتلة من الثلج . مثل هذه النهاية الأليمة دفعت الشاب للشعور بالذنب ، فبكى وقام ليتوضأ ثم صلى ركعتين لله.
مشكلة هذا النص أنه شديد المباشرة ، فهو يقدم موعظة أخلاقية ، تدور حول النهاية الأليمة لتلك المرأة المنحرفة ، التي قرأ خبرها في ورقة مهملة ، وأعتقد أن تلك النهاية المقصودة ، والتي دفعته دفعا للتوبة جاءت من خارج السياق ؛ فهي تمثل رغبة الكاتب قبل غيره.
فما عرفناه عن الشاب أنه قد مر بتجربة زواج فاشل ، الأمر الذي مثل لديه عقدة مستحكمة . لقد اهتم الكاتب بالتأكيد على النزعة الأخلاقية ، وتنازل قليلا عن المغامرة الفنية في الكتابة ، حيث الأهم عندنا هو القبض على حالة سردية متماسكة، دون الوقوع في فخ المثالية.
نفس الشيء نجده في قصة ” تلك الليلة ” والتي تتحدث عن رجل تعرض في حياته لمحنة النكوص عن حبه فقد تخلى عن فتاته خوفا من إغضاب والدته . إنه يتذكر تلك الليلة بتفصيلاتها ، ويجد نفسه مشحونة بالغيظ لأنه تنازل عن حقه في الاختيار .
كانت فتاته جالسة إليه منكسة الرأس ، وهو يشرح لها سبب تخليه عنها ، وبالرغم من أنه غلف حديثه بأدب جم فقد كان موقفا صعبا ترك في نفسه أثرا سلبيا . لقد فضل أن ينصت لكلام الأم ، وأن يطيعها لأنها ربته في صغره بعد وفاة الوالد. وفيما يبدو فإن هذا الاختيار الخاطيء قد نسف خطة الحبيبين للزواج.
كانت النزعة الأخلاقية التي قادت الشاب لقطع صلته بمن يحب هو الطريق المرهق للتعاسة في حياته بعد ذلك ، وهو ما مثلته حالة الرجوع إلى اللحظة الراهنة حيث يعود إلى نفسه فزعا على صوت زوجته ، وهي تتشاجر مع أولادها ، ويكون صوتها هو الحائل بينه وبين تلك الحبيبة التي غدر بها في الماضي .
بان الشاب في هذه القصة مسلوب الإرادة ، فهو لم يناقش أمه ، ولم يحاول التمرد عليها ، لكنه تنازل عن أبسط حقوقه تحت ضغط النزعة الأخلاقية التي جعلته يفضل رضا الأم على سعادته وهي رؤية قاصرة ، ولا أجدها تتحقق على أرض الواقع إلا في أضيق نطاق ، وإن حدثت فيكون ذلك بالنسبة للمرأة فقط ، أما الرجل فلديه من القوة والقدرة والمناكفة ما يجعله يقاوم الريح مهما بدا عاتيا.
* في الحياة .. صدمات مؤجلة:
يرصد الكاتب في بعض قصصه تلك الصدمات التي يتعرض لها البشر في الحياة دون مقدمات ، أحيانا يقع شخص ما في حبائل مشكلة لم يكن يتصور أن تصيبه باضطراب عظيم ، وأحيانا تجرفه مشاعر غامضة نحو قلاقل محتملة ، لم تكن ملحة أو ضرورية.
في قصة ” انتظار” يقنع الصديق الراوي كي يقوم بإجراء فحص طبي دوري للاطمئنان على صحته ، لقد عارض تلك الخطوة مبدئيا لكنه تحت ضغط الإلحاح ذهب لعيادة الطبيب مبكرا ، وجلس مترقبا دوره . المشكلة أن الانتظار طال والطبيب لا يلتزم بالدور مما جعله يشعر بصعوبة في التنفس ، وبزيادة ضغط الدم . حينما ينادي الممرض عليه كي يدخل حجرة الكشف ، يسارع بالخروج من المكان كي يفلت بجلده ، مرددا بصوت خفيض : لقد شفيت.
مثل هذا النص يعالج فكرة المشاكل التي تقتحم حياة الشخص بلا مقدمات ، وقد ساق الكاتب القصة بسلاسة ويسر ، وكان موفقا في اختزال الموقف ، منعا للثرثرة . لقد عبر بجملة واحدة عن غضبه وقرر أن يهرب من سطوة المرض قبل أن يصيبه في مقتل.
العنوان ” انتظار ” ذكي ، فهو لا يكشف مسار القصة ، ويلقي الضوء على الحالة التي تعرض لها بطل قصته بدون تطويل . أحيانا يكون اقتناص موقف ما من قلب الحياة المزدحمة بأحداثها مدخل طيع للتعبير عن قضية كبرى كحتمية الوجود عبر شعيرات دموية رقيقة في شرايين السرد.
أما في قصة ” إكسير” فثمة صدمة من نوع آخر. يمكن القول انها صدمة سارة ، فبطل القصة يسير في شوارع المدينة ، وتلتقط اذنيه عبارة :” أستاذ .. تزوجني ” . تلفه الحيرة بعد أن أصابته العبارة بالدهشة ، وحين تكرر العبارة يرد عليها مبتسما : ” أنا متزوج ” ويشير إلى ابنه الصغير الذي كان يتبعه.
تنتهي القصة بذهاب الفتاة أما هو فقد انتصب ظهره المعوج ، وسار مزهوا بشبابه الذي عاد مع الدعوة الغامضة لتلك الفتاة التي ذابت في الزحام.
يغلب على هذا النص خفة الظل ، وتقع الكتابة في المنطقة الساخرة التي لا تبتعد عن الواقع كثيرا ، ويعالج النص بشكل سريع أزمة العنوسة بتشكيل فني فيه مرح وانطلاق.
في قصة ” صدى الصمت ” يصنع لما الكاتب ” فخا” من الجمل والعبارات التي تدفعنا للظن أنه يتحدث عن امرأة قد أهملها ، ولم يعد يطيقها ، فكل جملة تذهب لتأكيد هذا التوقع . في عبارة كاشفة يكتب القاص :” ما الذي ذكرك بها بعد كل هذه السنين ؟ اعتقها لوجه الله ، أطلق سراحها ،لم تعد تناسبك ، هناك من هو في حاجة إليها “.
وبعد تلك المهلة الزمنية تكون الخاتمة بتلك الطريقة حيث تتدخل الزوجة لحل الإشكالية :” جذبتها منه ، وفي ركن الدولاب علقت ” البذلة ” على الشماعة وهو يطالعها ، كانت لا تزال صامته ” .
يتضح لنا أن الصراع الذي دار طيلة النص كان بين شخص ما وبين بذلته القديمة التي يريد أن يعاود ارتدائها غير أن الزوجة تضع حدا لتلك المسألة بوضع البذلة على الشماعة.
هذا الشكل من الكتابة يعتمد على لعبة التوقع ، ولا أفضله بتاتا ، فالصدمة هنا يتعرض لها المتلقي قبل غيره ، وعموما فيندر أن نستخلص حكمة أو موقفا ما بعد انتهاء العمل. ولو أنني كنت من كتبت هذا النص لذكرت من السطر الأول انني أتحدث عن ” بذلة ” ، وهنا يكون الشد والجذب مقبولا.
* خاتمة :
مجموعة النصوص السردية التي قرأتها تتميز بالتنوع ، وبسعة الأفق ، وبامتلاك الكاتب لأدواته ، وقدرته على بث خطاب فكري ملائم ، يناوشه تشكيل جمالي حي ومرن .
لاأ عرف ترتيب المجموعة بالنسبة للكاتب ، لكنها تشي بكاتب واسع الخيال ، ملتصق بناسه ، وفي نفس الوقت فإنه يضع قدمين ثابتتين على أرض الواقع الذي هو كنز الحكايات.