القضية جد شائكة وخطيرة ومستمرة لسنوات مضت تستدعي أعلى درجات اليقظة والانتباه: اللغة العربية تُذبح يومياً على مرأى ومسمع الجميع بمنصات التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا)، حيث تتحول “لكن” إلى “لاكن”، و”إن شاء الله” إلى “إنشاء الله”، و”الله أكبر” إلى “الله وأكبر”، ناهيك عن التحول إلى الـ “فرانكو آراب”.. أي الكتابة بمنطوق عربي ولكن باستخدام لغة أجنبية، فضلاً عن الميل للكتابة باللهجات المحلية (العامية) السريعة والغارقة في الأخطاء الإملائية وسط عزوف واضح عن استخدام الفُصحى؟!.
ويسمي خبراء اللغة العربية ما سبق بظاهرة “التدجين اللغوي” التي يلجأ لها الشباب – خصوصاً- من أجل التواصل بحثاً عن التميز والخصوصية الزائفتين، وهو ما يُعد بمثابة إختراع للغة غريبة على هامش المجتمع تعكس فكرة “الجُزر المنعزلة” التي تحياها طبقات وفئات عمرية مختلفة داخل المجتمعات العربية؟!.
والأمر المؤكد الذي تشي به تلك الظاهرة على (السوشيال ميديا) أن هناك مشكلة كبرى في التعليم بمجتمعاتنا العربية والسبب المباشر لها – وهو ويا للعجب نفس سبب التطوير المنشود للتعليم!!- وأقصد به استخدام التكنولوجيا الحديثة في التعليم لكي نلحق بركب الغرب المتقدم على شاكلة استخدام الأجهزة اللوحية (التابلت) والاستغناء عن الكتب المطبوعة واستخدام “الورقة والقلم”، والتي كانت أبرز اساليب “التعليم التقليدي”؟!.
مؤكد أننا لسنا ضد استخدام التكنولوجيا الحديثة في التعليم، ولكن علينا الانتباه إلى التأثيرات الجانبية لهذه التكنولوجيا التي أدت إلى غربة أطفالنا وشبابنا عن لغتهم العربية “لغة الضاد”، التي تمتاز عن غيرها من اللغات بأنها ليست فقط – كاللغات الأخرى- لغة تفاهم، ولكنها أيضاً “لغة مقدسة” إذ نزل بها الذكر الحكيم (القرآن الكريم) دستور هذه الأمة وحافظ هويتها الروحية عبر وسيط مُعتبر (اللغة العربية)، وهنا مكمن الخطورة فالغربة عن اللغة مقدمةً للغربة عن القرآن والهوية.
ويثور التساؤل المهم: هل يمكن أن تعيد أساليب التعليم التقليدي للغة العربية رونقها وحيويتها، وأنا هنا لا أدعو إلى التخلي كليةً عن استخدام التكنولوجيا الحديثة في التعليم، ولكن مع إحداث “توازن ما” بين الأسلوبين (التقليدي، والحديث) حتى لا يفقد أبناؤنا لغتهم وهويتهم.
وأظن أن فكرة عودة “التعليم التقليدي” – ولو جزئياً- لحماية “لغة الضاد” أمر مقبول ومشروع، والدليل ما أقدمت عليه السويد مؤخراً، وهي من أغنى دول دول الاتحاد الأوربي اقتصادياً ومن متصدري تصنيف التنافسية بالعالم، حين لاحظت أن هناك تراجعاً في مستوى الكتابة لدى الأطفال لعدم الإقبال على القراءة نظراً لوجود فجوة ملحوظة بين استخدام التكنولوجيا في التعليم وبين مهارة القراءة التي اتجهت إلى التهميش، فأمام ما يكتسبه الطالب باستعماله للتكنولوجيا من مهارة الاستماع والاستقبال، إلا أنه في هذه الأثناء يفقد مهارة القراءة والكتابة والتحدث لتقتصر على عبارات وجمل قصيرة؟!.
وقد أشارت دراستان نشرتا أخيراً إلى أن (18%) من طلاب السويد لا يمتلكون المهارات الأساسية في القراءة، وأن قسماً متزايداً من الطلاب يعاني من ضعف مستوى القراءة.
ومن هنا، أعلنت مؤخراً كلاً من: وزيرة المدارس السويدية “لوتا إيدهولم” ووزيرة الثقافة “باريسا ليليستراند” عن خطة لمواجهة ضعف القراءة لدى الطلاب عبر العودة إلى استعمال الورق والكتب الورقية بدلاً من الشاشات الرقمية.
وأكدت الوزيرتان على أهمية القراءة والكتابة كأساس في النظام التعليمي وفي المعرفة، مشيرتان إلى سياسة حكومية جديدة لمواجهة هذه الأزمة، حيث كشفتا عن تخصيص الحكومة لـ685 مليون كرون (عملة السويد) في ميزانيتها لتأمين كتب تعليمية للطلاب ووضع حدّ لسياسة التحوّل الرقمي في مدارس السويد، واعتبرتا أن الوسيلة الأفضل للتعليم هي عبر استعمال الكتب والورق والطرق التقليدية.
كما أعلنت الوزيرتان أنه سيتم العمل أيضاً على تعديل المناهج والقواعد التعليمية للتركيز بشكل أكبر على القراءة والكتابة، وتعزيز مهارات الطلاب، وكذلك تعزيز كفاءة المدرسين، ودعتا إلى تعاون كافة أطياف المجتمع لمواجهة أزمة القراءة وضعف اللغة لدى الطلاب.
وأخيراً.. هل نضع – نحن العرب- التجربة السويدية في الحسبان لكي نعيد الاعتبار لـ “لغة الضاد”؟.
…………………………
* صحفي وكاتب مصري
0