إن من أسمى العلاقات تلك التي تتصف بالحوار الهادف بين الأطراف، ويتمتع الجميع بمهارات الاتصال الفعال، ويكون للمتحاورين، الجرأة، والشجاعة، على الاعتراف بالخطأ في حال خالف (الصواب). أن يتأدب كل طرف مع الآخر، باختيار الألفاظ المناسبة، التي يرتضي المحاور أن يسمعها من غيره، فلا يصح أن تُقيم المحاور قبل أن تبدأ معه بالنقاش أو من خلال ما ينقلهُ الآخرون في حق الطرف الآخر، فقد تكون مشحونة مسبقًا بالسلبيات أو بقصص من وحي خيالهم المريض الحاسد بغرض انتقاص الآخرين لشعورهم بالنقص الحاد في شخصياتهم، وقد لخص هذا جبران خليل جبران في مقولته: “اسمع مني وﻻ تسمع عني فربما أكون بعينك جنة وبعين أحدهم نارًا، فتحرقك نار القيل والقال.” أو تحكم على الحوار بالفشل بدون أن تتبادل وجهات النظر، لأنهُ قطعًا سيتحول من نقاش إلى جدال، وهنا يكمن مضيعة الوقت فجدال الجاهلين هو جهد العاجز؛ لأنهم يتعاطون كبسولات منع الفهم لما يعانون من هذا المرض، ولكن المُعاند يرى الأمر في أساسه محاولة لصياغة مخرج لمأزق أو لحديث عجز عن إنهائه.
كثر في أيامنا هذه جهلة التصويب والتحليل لمواقفهم الحياتية، وهم لا يملكون مقومات المعرفة ولا الفهم للفروق الفردية وفنون إدارة العلاقات الاجتماعية، يطلقون الكلمة وتتلوها الجملة ذات المحمل والمعنى السيئ لمن عرفهم ومن لا يعرفهم، ويحرصون على تصويب تلك الكلمات والجُمل لمن تميز ونجح في جانب من جوانب الحياة؛ إذ تجد سهامهم موجهه بالنقد والتجريح بلا تأني ولا معرفة. والأغرب والأعظم يقولون في آخر حديثهم كلمة (من وجهة نظري) أو هذا رأي في الموضوع كما قال فرعون: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) سورة غافر، لا أدري ؟! هل هم فعلًا هم من أصحاب النظر؟ وما شأننا بوجهة نظر عرجاء أم وجهة نظرهم رأي قطعي لا نقاش فيه أو ملزمة للغير.
فلا يصح أن يقدحون من رأسهم بلا علم أو حتى خبرة تراكمية، هناك من الناس من يحاول أن يظهر نفسه بأنه عالم بكل شيء فما أن يتم فتح النقاش في موضوع تجده أول المتحدثين، وكل حديثه لا يرتبط بالموضوع بصلة بل هو فقط عبارات كلامية ألتقطها من هنا وهناك بعيدة عن المعنى وخالية من المضمون؛ فإذا ما تم نشر خبر أو حكاية يقوم بإطلاق لسانه؛ ليكلم فيها كل من يراه ويضيف عليها أمورًا ليست منها في شيء لأنه لا يعرف الحكاية أو الخبر ولا يعرف مضمونها، ولا يدري كيف حدثت ولا يعلم مصدر الخبر لذلك فهو ينطق بما لا يعلم. هو يهرف بما لا يعرف. إنها عادة متأصلة في نفسه لا يستطيع التخلص منها برغم أن الجميع من حوله يعرف إمكاناته وثقافته ومدى وسع أفق علمه.
إنّ الشخصية المتزنة هو ذلك الذي يشعر بأن الحقائق متنافرة، وإن كانت في الوقت نفسه متماسكة، فهو يبحث دائمًا عن العقدة التي تتجمع عندها خيوط الحقيقة، ويحاول أن يمسك بها، آخذًا على عاتقه أن يقول كل شيء متوخيًّا في حديثه الوضوح والصراحة، وليس تدليس الحقائق.
0