في عامِهِ الأخيرِ خرجَ شاعرُ اليَمَنِ وَأَحَد فُحُولِ شُعَرَاءِ القَرْنِ الثامِن ِالهِجري عَبْدُ الرّحيمِ بن أحمَد بن علي البُرَعيّ حاجًّا، فلمّا قاربَ مكةَ المكرمة، وهَبَّ عليهِ النَّسيمُ رَطْبًا عليلًا معطرًا برائحةِ الأماكنِ المقدسةِ، غَلَبَهُ الشوقُ فأنشدَ قصيدته المشهورة التي قال فيها:
يَا رَاحِلِينَ إِلَى مِنًى بِقِيَادِي
هَيَّجْتُمُوا يَوْمَ الرَّحِيلِ فُؤَادِي
وَيَلُوحُ لِي مَا بَيْنَ زَمْزَمَ وَالصَّفَا
عِنْدَ الْمَقَامِ سَمِعْتُ صَوْتَ مُنَادِ
وَيَقُولُ لِي يَا نَائِمًا جَدَّ السُّرَى
عَرَفَاتُ تَجْلُو كُلَّ قَلْبٍ صَادِ
مَنْ نَالَ مِنْ عَرَفَاتْ نَظْرَةَ سَاعَةٍ
نَالَ السُّرُورَ وَنَالَ كُلَّ مُرَادِ
تَاللهِ مَا أَحْلَى المَبِيتَ علَى مِنى
فِي لَيْلِ عِيدٍ أبْرَك الأَعْيَادِ
ضَحُّوا ضَحَايَاهُم فَسَالَ دِمَاؤُهَا
وَأَنَا المتَيَّم ُقَد نَحَرْتُ فُؤَادِي
يَا رَبِّ أَنْت َوَصَلْتَهُم صِلْنِي بِهِم
فبِحَقِّهِم يَا رَبِّ فِيكَ قِيَادِي
قُولُوا لَهم عَبْدُ الرَّحِيمِ مُتَيَّم
وَمُفَارِق الأَحْبَابِ وَالأَوْلَادِ
صَلَّى عَلَيْكَ اللهُ يَا عَلَم الهُدَى
مَا سَارَ رَكْبٌ أَو تَرَنَّمَ حَادِي
و”البرعي” اختلف المؤرخون حول أصوله هل هو سوداني أم يمني، إلا أنهم اتفقوا أنه يمني الجنسية، ولد وعاش في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري في قرية من جبل (برع) أحد جبال تهامة من محافظة (الحديدة) في وقتنا الحاضر. يذكر المؤرخون وأهل التراجم أنه كان مفتيًا، وعلى قدر رفيع في الأدب واللغة والسيرة النبوية. له ديوان مطبوع وبه الكثير من القصائد ويستشف من ديوانه معرفته باللغة، في مثل قوله:
كلامٌ بلا نحوٍ طعامٌ بلا ملحٍ ونحوٌ بلا شعرٍ ظلامٌ بلا صبح
إذا شرحوا فضلَ الكلام فإنني غني بفضل النحوِ عن ذلك الشرح
وتعود قصة هذا الشاعر وقصيدته عن الحج؛ وقتما حمل متاعه على جمل قاصدًا البقاع المقدسة لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام فريضة الحج، وعندما اقترب رَكْبُهُ من مكة هبت نسائم الأماكن المقدسة فازداد شوقه للوصول، لكن مرض الموت اشتد عليه بصورة قاسية ومتسارعة لم تمهله فلفظ أنفاسه مع آخر بيت من هذه القصيدة التي سطَّرها هذا الشاعر حبًّا في الحج وأيامه، والتي قدم في أبياتها عصارة أحلامه وأمانيه في أداء شعيرة الحج وزيارة الأماكن المقدسة.
توفاه الله، ودفن (رحمه الله) بمكان يسمى (خيف البرعي) في عام 803هـ.
إنها قصيدة لا تموت لأن أغلب ضيوف الرحمن يعرفونها، ويتحاكون بقصتها رغم مرور السنين.
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: “دخل الرسول صلى الله عليه وسلم على صباغة بنت الزبير فقال لها: لعلكِ أردتِ الحج؟، قالت: والله لأجدني إلا وجِعةً، فقال لها: حجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حبستني”. وهذا الشاعر الذي لم يبلغ مقصده من الوصول إلى الأماكن المقدسة، لكنه -إن شاء الله- بلغ غايته من حصول أجر الحج ومرضاة الله سبحانه وتعالى. رحم الله البرعي، وكتب له الأجر والمثوبة.