المقالات

لا تصدقوا البخاري

مع الطفرة المعلوماتية المتدفقة من كل حدب وصوب، من الصعوبة بمكان أن نجد شخصًا يستطيع الإلمام بكافة العلوم والمعارف. هذا الكم الضخم من المعلومات يتطلب وجود “متخصصين” قادرين على تصنيف الغُث من السمين، فلكل علم خبراء متخصصون قضوا من أعمارهم سنوات (لتأسيس) معرفتهم وما يربطها مع العلوم المختلفة، ثم سنوات أخرى (لتطوير) ذلك التأسيس وسنوات فوقها (لمواكبة) المستجدات في ذلك المجال، وينسب للعالم المصري أحمد زويل مقولة “التخصص هو أساس التميز في عصر العلم”، ومع التطور في وسائل الإعلام (على تنوعها) وسيطرة وسائل التواصل الاجتماعي (على اختلاف مسمياتها)، صرنا نرى (مجموعة) يدلون بآرائهم في موضوعات (تخصصية دقيقة)، ويناقشون دون حسيب أو رقيب. وتحت ذريعة حرية الرأي والتعبير (وهذا حسابي الخاص في تويتر أو صفحتي الخاصة في الفيسبوك أكتب ما أشاء)، (يحترف البعض) نشر معلومات مضللة، ويطرح (بكل جرأة) تساؤلاتٍ تثير الشك في موضوع (ما)، أكثر مما تزيل الغموض عنه، ويسمى تدليسه بحثًا عن الحقيقة أو الطريق إلى الحقيقة!

ولا يقتصر نشاط المخادعين المضللين على علم واحد، هناك من (يختلق) أدوية في الطب، ومن (يزيف) في التاريخ ومن (يراوغ) في القانون… إلخ، لكني لم أجد (جرأة) تصل حد الوقاحة مثل التطاول على العلوم الشرعية أو ما ينبثق عنها، صار التشكيك في الأحاديث النبوية حقًّا مشاعًا يناقشه كل من هب ودب! شخص لا يملك الخبرة العلمية (في العلم الشرعي)، وليس عضوًا في جهة شرعية رسمية (تابعة للدولة) تجده وبدم بارد يسخر من رواة الأحاديث والصحيحين وينفي ويثبت …إلخ، وآخر (عبر قناة فضائية عربية) يرى أن الصوم ليس واجبًا على (الأصحاء) ثم الفدية عن كل يوم! وهناك من يتحدث (لعامة الناس) عن الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم وقواعد اللغة العربية والجناس والطباق…إلخ، بينما كثير من (عامة الناس) الذين يستمعون له يكتبون (إنشاء الله) بدلًا من (إن شاء الله)! ومؤخرًا، تفتق ذهن أحدهم وكتب على حسابه في تويتر متأثرًا بسبب ما بثته (قناة العربية) عن مواطن سعودي كفل (تبنى) طفلة حتى تخرجت من الجامعة، ويدعونا “لمراجعة القانون (والأحكام الشرعية) التي تمنع التبني الكامل”، ويبين بثقة بأن “الانتماء العائلي (الأبوة والبنوة) ليست محددة بالوضع البيولوجي بل هي اعتبار اجتماعي في المقام الأول”. ثم يطالب “يجب أن نسمح بإضافة اسم الحاضن كأب للشخص المحتضَن وأن يعامل مثل أبنائه البيولوجيين! وكأن من منع التبني هو مجلس الشورى أو الأحوال المدنية! الطرح العلني أمام (عامة الناس) مع (غير المتخصصين) في موضوعات (تخصصية دقيقة) ليس مكانه الإعلام المفتوح ووسائل التواصل الاجتماعي، بل قاعات العلم والمرجعيات المعروفة (المعتمدة من الدولة) للمناقشة بأسلوب علمي بحت ودحض الحجة بالحجة حتى لا نفتح مجالات للتشكيك بحجة البحث عن الحقيقة، فالنقاش المفتوح (لبعض الأمور) مع غير الخبراء ضرره أكثر من نفعه، حتى لعبة كرة القدم التي يُمارسها البشر في الحارات والمدارس والجامعات …إلخ، (يرفض) بعض نجومها آراء وتحليلات من لم يمارسوا اللعبة (رسميًا).

هذا المقال ليس دعوة لتقييد التفكير والنقاش، بل هدفه (ضبط الحوار) مع أهل الاختصاص (حسب القوانين). قد يقال: إن تلك الأسئلة هي نوع من الاجتهاد، إن أخطأ المجتهد فله أجر، وإن أصاب له أجران. هناك فرق بين الاجتهاد والهرطقة، فالاجتهاد (في أي مجال) له شروط وواجبات وليس حقًّا واجبًا لكل فرد، والهدف منه بذل الجهد للوصول إلى نتيجة (أو قرار) بالبحث والاستدلال والتحليل والاستقراء، فيبذل المجتهد كل ما يستطيع من جهد لإدراك النتيجة، أما الهرطقة؛ “فهي تغيير في عقيدة أو منظومة معتقدات مستقرة، (وخاصة الدين)، بإدخال معتقدات جديدة عليها أو إنكار أجزاء أساسية منها بما يجعلها بعد التغيير غير متوافقة مع المعتقد المبدئي الذي نشأت فيه هذه الهرطقة”!

خاتمة:

لنحذر من دس السم في العسل، إذا نجح المشككون في التسلل إلى ثوابت الدين، سوف يسهل عليهم ضرب الثوابت الأخرى، علينا الحذر منهم حتى لو كتبوا أو تكلموا بلغتنا أو لبسوا ثيابنا!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى