المقالات

ولي في مواسم الحج شجون-2-

هيا كدا

أذكر أنه في عام 1387 كان على معهد المرور بالرياض الذهاب للمشاركة في أعمال الحج، وقد كنت أحد الضباط العاملين فيه، وكان علينا أن نكون في المواقع الخاصة بنا في أوائل شهر ذي القعدة، وكان عدد طلاب المعهد حوالي 200 فرد، و هم من الأفراد وصف الضباط العاملين اختيروا لرفع إمكانياتهم العملية والثقافية من خلال دورة في المعهد تستغرق عامًا دراسيًا كاملًا. جمعنا مدير المعهد وأبلغنا بذلك وقال إنه مضطر للسفر بالطائرة إلى جدة، وعلى أحدنا أن يقود القافلة عن طريق البر التي تتكون من عدة باصات وسيارات صغيرة وونشات إلى المشاعر المقدسة، وبما أن حكم القوي على الضعيف وبما أني أصغرهم رتبةً (ملازم أول حديث الترقية). اتجهت الأنظار إلي؛ وكأنها تقول لي توكل على الله واشتغل قائدًا لهذه المهمة، وأخذتها من قصيرها ويلوب في خاطري بيت الشعر الذي استشهد الحجاج بن يوسف الثَّقّفي به، هو مطلع قصيدة قالها سُحَيْم بن وَثيل الشاعر المخضرم:
أَنَا ابنُ جَلَا وطَلَّاعُ الثَّنَايَا
متَى أضَعِ العِمامَةَ تَعرِفُوني
وَإِنَّ مَكَانَنَا مِنْ حِمْيَرَيٍّ
مَكَانُ اللَّيْثِ مِنْ وَسَطِ الْعَرِينِ
وعلى ذكر أضع العمامة فالغرض هنا ليس اعتمارها ولكن وضعها جانبًا.
المهم يا سادة الحقيقة أنا لست ابن جلا، ولا من هم يتعممون. ولكن مرحبًا بك يا غصيبة. أيضًا بيني وبينكم كنت أحب هذا النوع من العمل، وهو التدرب على القيادة زد على ذلك كانت علاقتي بالأفراد سمن علي عسل. نتيجة قربي منهم وإشرافي شبه الدئم على الطوابير والفصول. أما زملائي ضباط المعهد فهم أيضًا أخذوها من قصيرها فامتطوا ظهر أول طائرة متجهة إلى حيث عوائلهم واستمتعوا عدة أيام معهم. توكلنا على الله والقافلة، وقطعنا المسافة في حوالي أكثر من 12 ساعة، وكنا نتوقف قليلًا بين حين وآخر لشرب الشاي وإراحة السيارات وتعبئتها بالبنزين. وأشرفنا على عرفات وقبيل مسجد نمرة كانت هناك مظلات وجدت ليستظل بها الحجاج من حرارة الشمس. فقلت للأفراد دعونا نرتاح هنا، ونطبخ غداءنا ونصلي “جمع وقصر” ثم نذهب إلى المركز الرئيس في منى. وفعلًا نزلنا وكان في الجو غيم. ولكن ليس كغيم أغنية محمد عبده المجازي بل غيم رهيب والله رهيب. وبدأنا نطبخ. وهنيهة هنيهة بدأ الهتان ينزل وفرحنا؛ فنحن والمطر لسنا جيران بحكم ندرته ولكن نحبه حب الجار والعيلة، وبدأنا نلهو في ذلك الجو الممتع ما بين السباق وبعض الألعاب التي يجيدها العسكر، وأنا معاهم معاهم وعليهم عليهم، وبعد ساعة وجدنا أن المطر اشتد فقالوا ما الدبرة يا مدير وأعجبتني صراحة كلمة مدير فقلت ما سمعت. ردوا ما الدبرة يا سعادة المدير وأعجبتني أكثر وكدت أن أقول ما سمعت لكن خشيت أن يفقسوها. (صراحة الكلام الأخير ما حصل لكن فقط للتحلية) قلت هيا يا الربع نضع أغراضنا داخل المسجد ونلتجئ إليه حتي يخف المطر، وهذا ما تم، ولكن زاد المطر وبعض الأفراد كانوا خارج المسجد وسمعتهم يصيحون يا ملازم الحق وانظر، وخرجت وإذا بالسيول الجارفة قادمة من الوادي ولا أبالغ إن قلت إن عرض السيول كان ما يقارب 500 متر على الأقل، وهي متجهة نحونا بسرعة رهيبة وغزارة عظيمة مفجعة، ومهما حاولت الوصف فلن أستطيع من هول ما رأيت. وفي نفس الرقت سمعت ضوضاء من جهة المسجد فرجعت وإذا بالسيول اجتاحت المسجد والمؤن تطفو علي سطح الماء والأفراد يسبحون فيه.. وكان محراب المسجد يقع على مرتفع، وكانت هذه المنطقة الوحيدة التي يمكن اللجوء إليها، ولو مؤقتًا من السيول العارمة. طبعًا اتصلنا عن طريق الأجهزة اللاسلكية لعل أحد يسمعنا ويغيثنا. ولكن لقد أسمعت لو ناديت حيًا ولكن لا حياة لمن تُنادي، وفسرت ذلك بأن كل من نطلبهم تذكروا قول الشاعر المصري الهزلي بن سودون، وهو يقول: وفي الهيجاء ما جربت نفسي ولكن في الهزيمة كالغزال، وأدركت أنه قد حان وقت الجد وأنا فعلًا القائد صغرت رتبتي أم سني أو مهما يكن. وفي ذلك الوقت كنت في داخلي أحدث نفسي بأننا مغرقون، وأن الموت لا مفر منه. ولكن علينا أن نموت ميتة الشجعان خاصة وقد رأيت البعض من الأفراد ممن عركتهم الحياة العسكرية مذهولين كما شاهدت علامات القلق علي سحناتهم خوفًا أن ترتفع السيول إلى الكثيب الذي نحن عليه وكل منهم خلفه عائلة إن حرص على العيش فهو لأجلها أكثر من حرصه على حياته ذاتها..فوقفت وبصوت عال وواضح وحرصت أن لا يكون به أي نغمة توحي بالخوف أو القلق، وقلت أنتم رجال وقابلتكم في حياتكم شدائد كثيرة، وكلنا هنا ذاك الرجل؛ فعلينا أن نكون يدًا واحدة وإذا أراد الله أن نمت فلنمت رجالًا كريمي الصبر عند الشدة، وشهداء بحق. فلنجتمع كلنا في هذه البقعة؛ ولندرك أن الله معنا؛ وكأن الرجال كانوا ينتظرون تلك الكلمة وتجمعنا كلنا في تلك البقعة ومنا من يدعو بالسر ومنا من يدعو بالعلن والبعض يقرأ القرآن، وأنا تشهدت في داخلي وطلبت من الله العفو والمغفرة. وتجهزت نفسيًا للموت وسلمت أمرنا لله. نعم كنت قلقًا على نفسي ومن معي ولكن إن كان لا بد من الموت، أموت واقفًا. وهكذا فعل باقي الرجال، وإن كنا جميعًا نخفي قلقنا عن بعضنا، وزادت السيول وطغى الماء علي العبارات ومن فوقها بدأ يطفو ما يسحبه السيل من أشجار وبعض حيوانات البادية من حلال وجمال وغيرها، وفي لحظة الذروة وتكاد السيول تصلنا وتجرفنا جاء أمر الله، وفجأة وأقسم بالله أنها كانت كلمح البصر وتوقف المطر، ولم تنزل قطرة واحدة بعدها، وتنفسنا الصعداء وحمدنا الله الذي لطف بنا وانتظرنا حتى انحسر السيل. ثم شددنا رحالنا إلى المركز الرئيسي وقد كتب لنا عمرًا آخر. وكأننا حركنا عداد الحياة ليبدأ قصة مسيرة جديدة لحوالي مئتين من عباد الله. الله يذكرهم جميعًا بالخير ورحم من مات وأطال عمر من بقي منهم، وقد تقع أعين بعضهم على هذه السطور؛ فيقولون وهم يقرأون هذه الحروف الحمدلله الذي أحيانا بعد ما شاهدنا الموت بقلوبنا قبل أعيننا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى