المقالات

وأذّن في الناس بالحج

لما كان الحج يُمثل الركن الخامس من أركان الإسلام؛ فإنه يُعد مسك الختام وجامع الفضائل لأركان الدين إذ يحمل في طياته جميع أنواع العبادة، إذ يبنى على التوحيد الخالص لحديث النبي ﷺ: (خيرُ الدعاء دعاء يوم عرفة، وخيرُ ما قلت أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير)، كما تتخلله فرائض الصلوات، فيما يتفرد بأداء صلاتي الظهر والعصر بكيفية مخصوصة؛ جمعًا وقصرًا، بخطبة شاملة لما ينفع الأمة ويؤكد ثوابتها ونهجها الوسطي المعتدل القويم، قياسًا على خطبة النبي ﷺ إذ شدد على السلم والمسالمة بعيدًا عن العنف ودواعي الإرهاب، في حين التأكيد على حفظ الحقوق والتزام الأمانة التي هي ضد الخيانة والفساد، (أيها الناس، إن دماءكم، وأموالَكم، حرامٌ عليكم إلى أن تَلقَوْا ربَّكم، كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغتُ، اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة، فليؤدِّها إلى من ائتمنه عليها).

كما يتضمن الصدقة من (هدي وفدوٍ) لبعض النسك أو لما يقع فيه الحاج من محظورات؛ لتكون بمثابة جبرًا للنقص أو تلافيًا للخلل .. وبما أن لعشر ذي الحجة فضل عظيم وأجر مضاعف إذ أقسم الله بها لشرفها وعظيم قدرها (والفجر وليالٍ عشر) فإن للعمل الصالح فيها ميزة أيضًا لحديث النبي صلَّى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى عزَّ وجل من هذه الأيام) – أيام العشر من ذي الحجة، ولعل الصدقة من أجل الأعمال كونها نفعًا متعديًا، يُسد بها رمق الجائع ويطفأ بها العطش وتقضى بها الحاجة ويوسع بها على المعسر ويواسى بها الفقير والمعوز، وهي في العشر والحج مضاعفة بفضل المكان والزمان!!
وبما أن الحج صدى لدعوة أبي الأنبياء إبراهيم الخليل – عليه السلام – بأمر الله – جل وعلا – (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج: 27] ليبلغ ذلك الأذان الآفاق ليستوطن مكامن النفوس ميلًا وهوىً؛ لتتعلق الأفئدة توقًا وشغفًا بالبيت العتيق (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم: 37] ولتأتي على إثر ذلك جموع الحجيج المؤلفة من أصقاع شتى ومناحٍ متعددة بمختلف طبقاتهم وألسنتهم وثقافاتهم وحالاتهم مما يجعل خدمتهم والقيام بشؤونهم؛ أمنًا وأمانًا، وتوفير متطلباتهم من سكن وسقاية ورفادة لأمر مندوب شرع وعرف وعادة متوارثة منذ عهد سيد قريش (قصي بن كلاب) من قبل البعثة المحمدية، وقد ورد لفظ (السقاية) في القرآن الكريم كمنصب رفيع ذي شأن كبير وأثر عظيم يفاخرون به، وإن كان السياق على سبيل التقريع للكفر؛ إلا أنه يتضمن التقرير بأهمية العمل؛ كنفع ممتد، (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (التوبة: 19)!
ولأنه الحج الأكبر الذي ختم به شرائع الدين وعظائم النعم والأعمال، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ) [المائدة: 3] فإن حجة الوداع أيضًا كانت خاتمة المطاف لحياة النبي ﷺ، لتكون خطبته قواعد عامة تستقي منها الأمة الخطوط العامة في المعاملات كجزء من العبادة لا تنفك عنها، (إن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث، وإن مآثر الجاهلية -يَعني أعمالها- موضوعة، غيرَ السِّدانة والسقاية، والعَمْد قَوَدٌ – يَعني: القتل العمد قصاص – وشِبْهُ العَمد ما قُتِلَ بالعصا والحَجَر، وفيه مائة بعير، فمن زاد، فهو من أهل الجاهلية).
ليضع آنذاك حدًا فاصلًا ومسافة آمنة بين المرء وأخيه، في التعامل بالبيوع الحلال لا بالنجش والخداع أو الربا الذي يرهق كاهل الإنسان بزيادات مضطردة فيما لو لم يمنع التعامل به، كما يضع العصبية والثأر وكل ما ورث من تركات الجاهلية التي تتنافى مع القيم والمبادئ الإسلامية؛ ليضع ميثاقًا دستوريًا وقانونا شرعيًا وأخلاقيًا بحتًا يضمن به الإنسان – أي إنسان – السلامة لنفسه وماله وأهله، وإن لم يكن مسلمًا؛ كمعاهد أو مسالم، في إشارة واضحة لإنسانية الإسلام ورحمته، وحفظه للحقوق، واحترامه للغير!!

وهنا ملحظ مهم، إذ استثنى النبي ﷺ موضوع يهم الحاج وزائر بيت الله الحرام من بين تلك الأعمال التي تتنافى والإسلام ألا وهما (السدانة والسقاية)؛ كونهما يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بتسهيل أداء شعيرة الحج، لما فيهما أيضًا من ضمان الأمن الغذائي لقاصدي الحرم الشريف، وليبقي لهما صفتهما كعمل ضروري وجليل، يتقرب به إلى الله ما دام مغلفًا بالإيمان والتقوى؛ احتسابًا للأجر والمثوبة من لدن العلي الخبير!

ولأن الرسول ﷺ يقرر في خطبة الوداع دستورًا للأمة تصاغ بموجبه (حقوق الإنسان)؛ ليؤكد شمولية الدين ورحمته وليبين عدله وإعزازه للجنس البشري دون تمييز فقد عرج على (حقوق المرأة) كونها كانت مضطهدة وربما مستهجنة أو ينظر لها على أنها عار (توأد في مهدها)، أو تسوء وجوه من يبشر بمولدها،(وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) [النحل: 58] (يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [النحل : 59] لذلك خصص جزءًا من حديثه عن النساء؛ ليؤكد مكانة المرأة وفضلها وما لها من حقوق، لتكون فصلًا بين العدل والجور، ونصرًا من كل ما يمكن أن يقع عليها من ظلم واستبداد، وليحفظ لها حقها في النفقة والأمان النفسي والجسدي من أي تطاول أو اعتداء أو تقصير وإهمال.

أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقًّا، ولكم عليهن حقٌّ؛ ألا يُوطِئنَ فُرُشَكم غيرَكم، ولا يُدخِلنَ أحدًا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتِينَ بفاحشةٍ، فإذا فعلنَ ذلك، فإنَّ الله أذِنَ لكم أن تَهجروهُنَّ في المضاجع، وتَضربوهُنَّ ضربًا غير مُبَرِّحٍ، فإن انتهينَ وأطعنكم، فعليكم رزقهُنَّ وكِسوتهُنَّ بالمعروف، وإنما النساء عوانٍ عندكم – يَعني أسيرات – ولا يَملكنَ لأنفسهِنَّ شيئًا، أخذتموهُنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجَهنَّ بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهنَّ خيرًا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.
وختم بقوله: (اللهم فاشهد) لعظمة أمانة الرسالة، وعظم الوصية، وأمانة الكلمة، وأن المرأة أيضًا أمانة!!

ثم استطرد ﷺ في خطبته ليؤكد على حرمة التعدي على الآخر،(إنما المؤمنون إخوة، ولا يَحلُّ لامرئٍ مالُ أخيه إلا عن طيب نفسٍ منه)، كما جاء في حديث آخر، قال ﷺ : (كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، والتقوى هاهنا، وأومأ بيده إلى القلب، وحسب امريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم)

وهنا لم يكتفِ النبي ﷺ بالتحذير من كبائر الأمور بل حذر من تلك التي يلمعها الشيطان أو يجريها على الألسن كسخرية أو احتقار أو ازدراء ليلفت إلى أن المسلم محاسب على ما يقول ويفعل، (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]

“أيها الناس، إنَّ الشيطان قد يئسَ أن يُعبدَ في أرضكم، ولكنه قد رضي أن يُطاعَ فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم”، وفي حديث آخر عن جابر -رضي الله عنه- سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الشَّيطان قد يَئِسَ أن يَعْبُدَه المُصَلُّون في جَزيرة العَرب، ولكن في التَّحْرِيشِ بينهم».

وليؤكد بأن انتقاص الآخرين أو تتبع عوراتهم أو محاولة التنقيب عن معايبهم ونقائصهم تجر إلى الشحناء والبغضاء وربما أفضت للمشاكسات أو الصراعات المهلكة، فيما يراها البعض من محقرات الذنوب إلا أن الدين يدعو اتباعه إلى تقمص لباس الستر والعفة، وارتداء معطف التغافل؛ تنزهًا وإعفافًا، وهكذا الدين يكسو المسلم الطهر والنقاء، ليكون قلبه سليمًا معافى من الغل والحقد والحسد والبغضاء، ليسمو لخالقه بصفاء ووئام وتصالح مع الذات والآخر، بل ربط قبول الحج بتجنب كل رفث وفسق، كما ورد في الحديث عن أبي هريرة قالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقولُ: منْ حجَّ فَلَم يرْفُثْ، وَلَم يفْسُقْ، رجَع كَيَومِ ولَدتْهُ أُمُّهُ. متفقٌ عَلَيْهِ.!!
وها قد أقر نظم الحياة فقد ختم بما يحفظ حقوق الإرث؛ مالًا ونسبًا، ليبين حق الوارث من مال مورثه؛ ذكرًا أو أنثى.
(أيها الناس، إنَّ الله قد قسم لكلِّ وارثٍ نصيبَه من الميراث، ولا تَجوز لوارثٍ وصيَّةٌ، ولا تَجوز وصيَّة في أكثر من الثُّلثِ، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، من ادَّعى لغير أبيه، أو تَولَّى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يَقبلُ الله منه صرفًا ولا عدلًا).

ليكفل حفظ الحقوق وتقاسم الإرث بصفة شرعية متزنة، كما ليبين عظمة النسب من ناحيتين:
⁃ الأولى: ليقطع منازعة الاختلاف في النسب من جانب.
⁃ وليؤكد على حُرمة عدم الانتساب لغير الأب، وأن اللعنة ستطول من يدعي ذلك زورًا وبهتانًا من جانب آخر.

وبما أن الحج تجمع بشري غفير فإنه يتضمن منافع ومصالح متبادلة على صعيد العبادة والمعاملات في آن واحد، ليحفل بخيري الدنيا والآخرة في إشارة إلى أن العبادة ليست انقطاعًا أو تبتلًا تعزل المسلم عن عالمه الخارجي، بل هي تفاعل وتعاطي مع أوجه الحياة المختلفة؛ بيعًا وشراء، صناعة وممارسة لشتى ألوان المهن والحرف كجزء من العبادة مادامت للاكتفاء الذاتي أو الخدمة العامة، وهكذا الحج يضعنا في خضم الحياة إذ يجمع الخلائق ليتبادلوا المنافع وليتكاملوا، ليكون درسًا عمليًا مطابقًا لما يحصل في معترك الحياة العامة!!
(لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج: 28]

ومن خلال هذه الخطبة العصماء التي تُمثل تشريعًا مستفيضًا بالحكم والقواعد المنظمة للحياة؛ فإنها أيضًا تأكيدًا على أن الحج مجاهدة للنفس لتأطيرها على ما يصلحها، ليتخرج الحاج من مدرسته التربوية بمنظومة أخلاقية سلوكية منهجية تطبيقية تفوق الإعداد النظري، لما يتخلل الحج من تلاقح فكري، وثراء معرفي، ومحك أخلاقي نتيجة تباين العادات أو الثقافات مما يتوجب على المسلم تقبل الآخر وتحمل ما يصدر منه بصورة عفوية أو حتى مقصودة لئلا يخسر أجر حجه فيما لو جرحه بكلمة نابية أو لفظ سيئ أو تصرف غير لائق أو فعل يضر بمن حوله، ليضعه الحج في مواجهة مباشرة تمتزج فيه المشاعر بروعة الموقف وعظمة الشعيرة ليتولد عنها صبرًا وتجلدًا وتحملًا يجد بهما لذة الطاعة ومتعة العبادة، ليحظى بالجائزة الكبرى؛ ليعود كيوم ولدته أمه؛ وقد محي ذنبه وعظم أجره وشكر سعيه!!

ولأنه الحج إلى البيت المُعظم بتعظيم الله لحرمه الآمن، ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، فقد تشرب ذلك الشعور قادتنا الميامين منذ بواكير دولتنا المباركة المملكة العربية السعودية لينعكس اهتمامًا متناميًا منقطع النظير بالمقدسات؛ إعمارًا للحرمين والمشاعر المقدسة وبناء لمنظومة متكاملة من الخدمات ووضع استراتيجيات وخطط تكفل حسن الاستقبال ورفاهية السكن وطيب الإقامة وأداء الفريضة بيسر وسهولة في ظل إمكانات هُيأت؛ ليحظى من خلالها الحاج بالراحة والطمأنينة!!

شكرًا حكومتنا الرشيدة على هذه الاستعدادات، وهذه الجهود، وهذا التنسيق المُتقن الذي جعل من أجهزة الدولة منظومة متكاملة لإظهار هذه المناسبة العظيمة بصورة مشرفة ومشرقة تفوق الوصف إنجازًا وإتقانًا منقطع النظير!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى