يقول الفرزدق
حَمّالُ أثقالِ أقوَامٍ، إذا افتُدِحُوا
حُلوُ الشّمائلِ، تَحلُو عندَهُ نَعَمُ
ما قال: لا قطُّ، إلاّ في تَشَهُّدِهِ،
لَوْلا التّشَهّدُ كانَتْ لاءَهُ نَعَمُ.
رحل طلال بن منصور…عرفت الأمير طلال من قديم. كنت ضابطًا ملازمًا في شرطة نجدة جدة، ومقرها في منطقة باب شريف بجوار مستشفى وزارة الصحة العام، وكنا نداوم كمناوبات ويحدث أن تكون مناوبتي يوم الجمعة، وكان هناك يقبع مسجد بن محفوظ، وكان يُعد من المساجد الجميلة الفخمة، وزد على ذلك كان هناك إمام يأتي الكثير من الناس من مختلف نواحي جدة للاستماع إلي حُسن خطبته، وكنت في يوم الجمعة أذهب لأصلي في المسجد وكنت ألحظ شابًا يأتي ليصلي معنا ومعه مرافقان اثنان وقد لفت نظري بوسامة خُلقه وخَلقه. فسألت من هذا الشاب فقيل لي إنه الأمير طلال بن منصور. في تلك الأيام وفي كل الأيام الأمير له كل التقدير؛ فهو فرع كريم من الأسرة المالكة، ومن المنطق أننا كشباب نفكر أن الأمير لا بد أن يكون محاطًا بهالة من الركب وحلة من الكبر، وهذا طبعًا لم يكن دأب آل سعود، فرؤية ذلك الأمير وهو بهذا الخلق الرائع والتواضع الجم لفت انتباهي، وعلمت من خويه أنه اتحادي الهوي. وزدت مودة له، وبعد بضع سنين. التقينا في العمل سويًا لخدمة نادينا الاتحاد وإن كان كل على قدرته. ورحل النبيل طلال بن منصور…يقول أبو العلاء المعري:
لَو كانَ لي أَو لِغَيري قَدرُ أُنمُلَةٍ
فَوقَ التُرابِ لَكانَ الأَمرُ مُشتَرَكا
وَلَو صَفا العَقلُ أَلقى الثِقلَ حامِلُه
عَنهُ وَلَم تَرَ في الهَيجاءِ مُعتَرِكا
وَلِلمَنايا سَعى الساعونَ مُذ خُلِقوا
فَلا تُبالي أَنَصَّ الرَكبُ أَم أَركا
وَالحَتفُ أَيسَرُ وَالأَرواحُ ناظِرَةٌ
طَلاقَها مِن حَليلٍ طالَما فُرِكا
ثم جاءت مرحلة صعبة ضربت جنبات النادي لعدة أسباب لا أريد الخوض فيها، وكان لا بد من شخصية معنوية ترأس هذا الكيان لحفظه من التآكل وحتي لا يصبح في خبر كان. وفعلًا تقدم طلال بن منصور وحافظ على الكيان بل وبذل جهودًا كبيرة لرفع مستواه، وفي عهده أحضر أحد أفضل المدربين في العالم، وهو الألماني كرامر، وفي تلك الفترة كان أيضًا يتواجد يوسف الطول -رحمه الله- وأذكر أنه في جلسة مختصرة في داخل النادي والأمير موجود ونحن حوالي عشرة أشخاص منهم أخي وصديقي سليمان الحمدان، وقد كان سكرتير النادي؛ فقال يوسف لا بد أن نطور النادي ويلزم ذلك دفع مبلغ مالي كبير وقال أنا الآن أمامكم ادفع خمسة ملايين ريال. فقال طلال وأنا كذلك وكان يحضر الاجتماع أيضًا الأمير خالد بن فهد، واقترح يوسف أن يحضر مارادونا للعب مع الاتحاد وكان نجم مارادونا في سطوع، ولكن استقر الرأي على إحضار مجموعة من اللاعبين، ومنهم عيسي حمدان وأبو سمرة وعثمان مرزوق. يقول الشاعر محمد بن حمير الهمداني:
لعمرك ما الرزية هدمُ دار
ولا شاة تموت ولا بعير
ولكنّ الرزيُة موتُ حُرٍّ
يموتُ لموته بشر كثير
ورحل قمة الأخلاق والأدب طلال بن منصور…. ثم بقي في الرئاسة عدة سنوات بذل فيها المال الكثير، وكنت أطلب منه أن يشتري ببعض المال عقارًا ومن ريعه يصرف على النادي شرط لا يموت الذئب ولا تفني الغنم، ولكن سجية الكرم المطلق لا تنبري تمنعه من ذلك ويقول خلنا نسارع في تقويم النادي. ثم استقال وعاد ثم استقال، وأصر على الاستقالة، ولكن اجتمع أعضاء الشرف في منزل إبراهيم أفندي -رحمه الله- والغرض لرفض الاستقالة والطلب منه الاستمرار، وهذا ما حصل في الجلسة فقال الأمير أريد التصويت علي هذه الرغبة بالإجماع وفعلًا تم ذلك ما عدا عضو واحد وكأن بذلك العضو أنا فقال يا أبا محمد أنت ترفض الفكرة. قلت نعم وليس والله جحودًا بل تقديرًا. لقد أفنيت مالك وجزءًا من حياتك وآن أن ترتاح. فالحظ لم يكن في ركابك. فقال نعم وتنحي فقال رئيس الشرف إبراهيم أفندي من البديل رشحوا أحدكم. فأدرت (لوبيًا) سريعًا فقلت أنت يا شيخ إبراهيم قال أنا بتعجب متفاجئًا فقلت نعم وبارك بقية الأعضاء ورأس النادي. وتحقق الدوري المشترك.
ورحل. الرجل الكريم طلال بن منصور…..
يقول الشاعر والإعلامي خالد الشلاحي من دولة الكويت في قصيدة له.
يكفيك شيخن هبة الريح فمحياه
تجيه الرجال بكل حاجه ويقضيها
هذا نادر الوصف وهذا نادر الأشباه
وهذا اللي ليا من قال كلمه يسويها
وهذا اللي ليا سنّد عليه الفقير أغناه
وهذا اللي مخاليبه من الطيب مدميها
يعيش الكريم ولا ذخر شي في مخباه
وتموت الرخوم فلوسها في مخابيها
وكنت أزور الأمير طلال في قصره العامر، والذي كان يؤمه عدد من محبي الأمير ورجال الاتحاد وأيضًا ثلة من الأمراء، وكنت أرى من معتادي زيارات الأمير الخلوق خالد بن عبد الله. وكنا نتحدث في أمور متعددة وفي كل مجال إلا الكره نبعد عنها، ودارت الأيام وبعد عملية أجريت له. عانى من آثارها كثيرًا فضَّل البقاء في المستشفى تحت العناية الطبية. الأمير طلال لا يخلو مجلس من الحديث عن طيبه ونبله وجزالة كرمه. فكم من أسرة أنقذها سموه من عثرتها، وكم عاش ممن يعرفهم بحياة طيبة. أو حصل على بعثات تعليم من جوده .. قال بشار بن برد
إِن الكريمَ ليُخفي عنكَ عسرتهُ
حتى تَراهُ غنيا وهو مَجْهودُ
وللبخيلِ على أموالهِ عللٌ
زرقُ العيونِ عليها أوجهٌ سودُ
إِذا تكرمتَ أن تعطي القليلَ ولم
تقدرْ على سعةٍ لم يظهرِ الجودُ
أبرقْ بخيرٍ تُرجَّى للنوال فما
تُرْجى الثما رُ إِذا لم يورقِ العودُ
ورحل الرجل الشهم المتواضع طلال بن منصور…..وآخر عهدي بسموه عندما كان الاتحاد بدون رئيس وترشح اثنان منهما المرحوم أحمد مسعود؛ وذلك بتفاعل من عبدالله شرف الدين والدكتور راكان الحارثي المرشح الثاني كان كما قلت الابن منصور البلوي، وكلمني رئيس هيئة الرياضة الأمير عبدالله بن مساعد وقال أريد رأيك الآن لدينا مرشحان ونحن محرجون هل من حل. قلت ضع مبلغًا من المال وليكن ثلاثين مليونًا، ومن يستعد فلتذهب الرئاسة إليه فعاد وقال: نعم الرأي فاتفقنا أنا وأحمد ومنصور أن نذهب للأمير طلال ليبارك لنا الفكرة ونستمع لتوجيهه ووقع الرأي بموافقة منصور على رئاسة أحمد وبارك لنا الأمير طلال. وكانت هذه آخر زيارة؛ وكأني بهذا الإنسان الطيب طاهر القلب واللسان. العفيف الذي لم تكن الدنيا عنده إلا عندما يده تكون مخضبة بالعطاء ولا يعلم لذة العطاء إلا الكرماء وكان هو في مقدمتهم؛ وكأني به بعد أن اطمأن على حبيب قلبه الاتحاد، وأنه في أيدٍ أمينة وشهد تتويجه بكأس الدوري أسلم الروح فالحبيب قد تعافي.
رحم الله طلال بن منصور مجموع إنسانية عظيمة، وأرفع التعازي لمقام سيدي الملك سلمان بن عبد العزير ولسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان، وعظم الله أجر أهله جميعًا، وكل محبيه وألهمهم الصبر. رحمك الله أيها الأمير الجليل وإلى جنة الخلد -بإذن الله- وفضله.
في ذمة الله ما ألقي وما أجدُ
أهذه صخرة أم هذه كِبدُ.
يقتل الحزن من أحبابه بعدوا
عنه فكيف بمن أحبابه فُقِدوا.
(محمد مهدي الجواهري.